كتب أستاذ الاقتصاد “أنس الأمين”: التضخم في ليبيا بين الاختلال البنيوي والإرث الاشتراكي
رغم أن التضخم يُنظر إليه في معظم الاقتصادات كظاهرة سلبية تُضعف القوة الشرائية وتربك الأسواق، إلا أن التجارب العالمية أثبتت أن التضخم المعتدل يمكن أن يكون أداة لتحفيز النمو إذا أُدير بسياسات نقدية ومالية منضبطة.
لكن في ليبيا، لا يعكس التضخم أي نمو حقيقي، بل هو نتاج فوضى مؤسسية وغياب للتنسيق بين السياسات الاقتصادية، يتغذّى على إرث فكري اشتراكي لا يزال يوجّه السلوك الاقتصادي للدولة والمجتمع — وعلى ظاهرة أخطر، هي المضاربة على الدولار التي حوّلت سوق النقد الأجنبي إلى مصدر للتربح السريع بدل دعم الإنتاج الوطني.
بين النظرية والتطبيق
في الاقتصادات الكبرى، استُخدم التضخم كوسيلة لتفعيل النمو بعد الأزمات.
ففي الولايات المتحدة، ضخّ الاحتياطي الفدرالي السيولة في النظام المصرفي بعد أزمة 2008 عبر سياسة Quantitative Easing، ما رفع التضخم مؤقتًا لكنه أعاد النشاط للاقتصاد.
وفي اليابان، استهدفت سياسة Abenomics رفع التضخم إلى 2% لكسر الانكماش الطويل.
أما الاتحاد الأوروبي، فاعتمد بدوره سياسة نقدية توسعية بعد جائحة كوفيد-19 لتفادي الركود.
هذه التجارب تؤكد أن التضخم لا يُعدّ دائمًا مرضًا اقتصاديًا، بل قد يكون أداة علاجية بشرط وجود مؤسسات قوية وإدارة رشيدة.
التجارب العربية: المغرب والأردن نموذجًا
في العالم العربي، أظهرت دول محدودة الموارد قدرة على ضبط الأسعار رغم التحديات.ففي المغرب، تمكّن بنك المغرب من تثبيت التضخم في حدود 2–3% بفضل سياسة استهداف التضخم Inflation Targeting وتنسيق السياسات النقدية والمالية.
وفي الأردن، ساهم استقرار سعر صرف الدينار والتزام الحكومة بـ الانضباط المالي في حماية الاقتصاد من موجات تضخمية خارجية.
هاتان التجربتان توضحان أن الاستقرار النقدي لا يتطلب ثروة نفطية، بل يتطلب مصداقية مؤسساتية وتنسيقًا في صنع القرار الاقتصادي.
الحالة الليبية: تضخم بلا أدوات
في المقابل، يعيش الاقتصاد الليبي حالة تضخم غير منتج، ناتج عن غياب أدوات فعالة للسياسة النقدية.
فمصرف ليبيا المركزي لا يملك سيطرة حقيقية على عرض النقود أو أسعار الفائدة، في ظل وجود نظام سعر صرف مزدوج بين الرسمي والموازي.
هذا الوضع خلق بيئة خصبة للمضاربة والفساد، وأدى إلى تآكل الثقة في الدينار، لتتحول ظاهرة التضخم إلى Cost-Push Inflation قائمة على اضطرابات العملة، لا على زيادة الإنتاج أو الطلب.
المضاربة على الدولار: الوقود الخفي للتضخم
أحد أبرز أسباب التضخم في ليبيا هو المضاربة على العملة الأجنبية، فمن يمتلك النقد الأجنبي – سواء من التجار أو بعض الجهات المتنفذة أو حتى المواطنين الباحثين عن حماية مدخراتهم – يلجأ إلى شراء الدولار وتخزينه أو إعادة بيعه في السوق الموازية لتحقيق أرباح سريعة.
هذه الممارسات تغذي الطلب المصطنع على الدولار، وترفع سعره بشكل مستمر، ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الواردات، وبالتالي زيادة أسعار السلع والخدمات داخل السوق المحلية.
كما أن الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية خلقت بيئة خصبة للمضاربة، واستُغلت من قبل بعض المستوردين أو الموظفين في الأجهزة الرسمية عبر تسرب العملات الأجنبية من الاعتمادات المستندية إلى السوق السوداء.
وبدل أن يُوجّه النقد الأجنبي نحو الاستيراد المنتج أو الاستثمار الحقيقي، أصبح وسيلة للربح السريع، مما جعل التضخم في ليبيا تضخمًا نقديًا ومضاربيًا في آنٍ واحد.
وهذا النوع من التضخم لا يفيد الاقتصاد، بل يُضعفه لأنه لا يخلق قيمة مضافة ولا يُحفز الإنتاج، بل يعمّق الريع المالي ويُفاقم هشاشة العملة الوطنية.
#
التبعية المالية واستمرار الريع النفطي
تواصل المالية العامة اعتمادها شبه الكامل على الإيرادات النفطية، في ظل نظام ضريبي ضعيف وعجز عن إدارة الطلب المحلي.
ومع كل انخفاض في أسعار النفط، تتجدد أزمة التضخم والعجز المالي، ما يكشف هشاشة البنية الاقتصادية واعتمادها على مصدر واحد للتمويل دون بدائل إنتاجية.
الإرث الاشتراكي: ذهنية تُغذّي التضخم
لا يمكن فصل التضخم في ليبيا عن الإرث الاشتراكي الذي ترسّخ خلال العقود الماضية.
فالفكر الاقتصادي السائد ما زال يُحمّل الدولة مسؤولية توفير العمل والدخل والدعم، بينما يُنظر إلى القطاع الخاص بعين الريبة.
هذا الإرث أنتج ثلاث ظواهر خطيرة:
- الاعتماد المفرط على الوظائف الحكومية.
- ضعف ثقافة الإنتاج والمبادرة الفردية.
- مقاومة تحرير الأسعار والمنافسة.
نتيجة لذلك، كلما ارتفعت الأسعار ارتفعت معها المطالب بالدعم، في دائرة تضخمية مغلقة يصعب كسرها.
آثار التضخم غير المنضبط
• تآكل القوة الشرائية للمواطن.
• توسع السوق الموازية وتراجع الاقتصاد الرسمي.
• هروب رؤوس الأموال وضعف الثقة بالعملة.
• ارتفاع معدلات الفقر والفوارق الاجتماعية.
• تراجع الإنتاج المحلي والاستثمار طويل الأجل.
إصلاح الفكر قبل الأرقام
التضخم في ليبيا ليس مجرد خلل نقدي، بل انعكاس لأزمة في الثقافة الاقتصادية والمؤسسات، فمن دون استقلال فعلي لمصرف ليبيا المركزي، وإصلاح النظام الضريبي، وتحرير تدريجي لسعر الصرف، وضبط المضاربة على الدولار، سيظل التضخم أداة تآكل لا تحفيز.
لكن التحدي الأكبر ليس في السياسات فقط، بل في تغيير الذهنية الاقتصادية: من الاعتماد على الدولة إلى بناء اقتصاد منتج يقوده المواطن والقطاع الخاص.
ففي النهاية، لا تُقاس قوة العملة بما تملكه الدولة من نفط، بل بما تملكه من ثقة ومؤسسات وفكر اقتصادي حديث