كتب “د.عبدالسلام عبدالله نصية”: تشهد ليبيا منذ سحب الفئات النقدية الجديدة من فئتي الـ20 والـ5 دينارات موجة جديدة من الاختناق المالي، أعادت إلى الواجهة مشاهد الطوابير الممتدة أمام المصارف وأجهزة الصراف الآلي، وسط غياب أي ضمان للحصول على السيولة. وفي الوقت الذي يواصل فيه سعر الصرف ارتفاعه في السوق الموازية دون كوابح واضحة، تتآكل القدرة الشرائية للمواطن يومًا بعد يوم، لتتعمّق الأزمة المعيشية بصورة غير مسبوقة.
ومع استمرار الإنفاق الاستهلاكي المنفلت، وتراكم الأعباء الناتجة عن السياسات الاقتصادية غير الرشيدة، يجد المواطن نفسه الحلقة الأضعف في سلسلة القرارات المالية، بينما تُعفى الجهات المعنية من تحمل مسؤولياتها. وتزداد المخاوف من أن تتجه البلاد نحو رفع جديد في سعر الصرف، في ظل توسع الإنفاق العام واستمرار سياسة الاستيراد غير المنضبط.
ورغم أن مصرف ليبيا المركزي يُعدّ من أبرز المؤسسات السيادية المكلفة بإدارة المال العام وحماية الاستقرار النقدي وضمان سلامة النظام المصرفي، إلا أن هذه المهام تبدو مهددة في ظل الصراعات السياسية القائمة. فالمصرف، الذي يفترض أن يعمل بمعزل عن التجاذبات، بات في كثير من الأحيان جزءًا من المشهد السياسي المحتقن، ما يضعف قدرته على اتخاذ قرارات مهنية بعيدة عن الحسابات الضيقة.
إن إدارة المصرف المركزي تحتاج إلى قيادة تمتلك الكفاءة العلمية والخبرة الفنية، وتعمل وفق رؤية متماسكة لا تُخضع القرارات النقدية لاعتبارات الولاء أو موازين القوى. فدون قيادة رشيدة، ستبقى المؤسسة المالية الأهم في البلاد رهينة الانقسام، ما يعرّض الاقتصاد الوطني لمزيد من الهشاشة.
لا تنقص الاقتصاد الليبي الحلول، بقدر ما تنقصه الإرادة السياسية والحوكمة السليمة. فالإصلاحات الممكنة — سواء في ضبط الإنفاق، أو توحيد السياسة النقدية، أو معالجة التشوهات في سوق الصرف — قابلة للتنفيذ، لكنها تتطلب قرارًا شجاعًا وإدارة شفافة. وفي المقابل، فإن استمرار النهج الحالي سيبقي المواطن في مواجهة مباشرة مع تبعات الانقسام، وسيدفع ثمن أي اضطراب مالي أو نقدي.
ختامًا…
إن قيادة المصرف المركزي في هذا التوقيت الحرج ليست منصبًا للمناورة أو لتوزيع النفوذ، بل امتحان حقيقي للوطنية والكفاءة. فالخيارات واضحة: إما إدارة قادرة على حماية الثقة المترنّحة في المؤسسات المالية، أو استمرار الانهيار التدريجي الذي يفاقم المعاناة اليومية للمواطنين.