كتب الخبير الاقتصادي “سليمان الشحومي”: كلما خرج علينا بيان مصرف ليبيا المركزي الشهري كلما كان مناسبة للنقاش المنطقي والعقلاني بين أصحاب الرأي، وأيضًا هو مناسبة ومادة دسمة إعلامية للخوض والبحث في واقعنا ومسبباته، وما هو الرأي والحل المناسب أمام واقع من السهل شرحه ومن الصعب جدًا تلافي انعكاساته ومداواة جراحه.
بيان المصرف المركزي الشهري — برغم أنه الوثيقة الوحيدة التي تطلعنا بشكل شهري عن الإنفاق والإيرادات الحكومية واستخدامات النقد الأجنبي — إلا أنه يزيد من حالة الغموض والإرباك، ويأخذنا في منعطفات جانبية بعيدًا عن دوره الأساسي الذي يبدو أنه كل يوم تتعاظم أمامه التحديات أكثر فأكثر.
الواقع أن المصرف المركزي بحكم عمله وقانونه ودوره الأساسي في الاقتصاد هو معني بأن يعبّر لنا عن الوضع الاقتصادي بأبعاده المختلفة (وهذا ما يعرضه بشكل تقليدي عبر نشرته الربع سنوية) ويقيس لنا حالة الاستقرار الاقتصادي ومدى استخدامه لأدوات السياسة النقدية لضبط الإيقاع واستدامة الاستقرار الاقتصادي عبر مؤشراته الأساسية، منها المصرفية كحركة الأموال وعرض النقود ونشاط سوق النقد بالاقتصاد بين المصارف ومع المصرف المركزي، ومعدل الفائدة وتغيراته وتحركاته وفقًا للمعطيات المالية والاقتصادية.تحوّل المصرف المركزي لناشر لبيانات الإنفاق والإيراد، ومعها يتصرف في عرض البيانات كما يشاء.
يشير البيان الشهري الأخير إلى نقص الإيرادات الموردة من مبيعات النفط خلال الأشهر الأخيرة، وهذا يترك القارئ في حيرة وتوجس كبيرين. هل هذا بسبب أن هناك حجبًا للإيرادات لم تُورد إلى المصرف المركزي؟ ومن له المصلحة في القيام بذلك؟ ولماذا لا يتم توضيح هذا اللبس، وإجراء مطابقة مع المؤسسة الوطنية للنفط التي توقفت عن نشر بيانات كمية الصادرات وقيمتها، مما ساهم في تعميق هذا اللبس؟ وهل مرجع هذا الانخفاض هو تراجع أسعار النفط عالميًا؟ وهو يبدو الأقرب. وفي كل الأحوال، كلا الحالتين لا مناص من تقديم مبررات مناسبة.
لا شك أن عرض التقارير ذات الطابع الاقتصادي الوطني يحتاج إلى حالة من التناغم والتطابق بين المؤسسات الاقتصادية المعنية من حيث العرض والتوقيت، سواء بالمؤسسة الوطنية للنفط أو وزارة المالية أو ديوان المحاسبة أو المصرف المركزي.
أما مسألة انخفاض واستخدام الاحتياطيات لدى المصرف المركزي واستخدامها في تغطية الفجوة بين الإيرادات والطلبات على العملة الأجنبية، وأن قيمة الاحتياطيات قد زادت بالمجمل بسبب زيادة أسعار الذهب، فهذا لا ينسجم واقعيًا مع أهم أساسيات متطلبات الحيطة والحذر في التعاطي مع تقلبات الأسعار العالمية. وأيضًا يكشف عن تحول في طريقة حساب الاحتياطيات لدى المصرف المركزي، والذي ظل لعقود لا يعيد تقييم الأرصدة من الذهب والاستثمارات بحسب القيمة السوقية. وهنا يبرز السؤال: لماذا لم يفصح المصرف المركزي عن أسباب هذا التغير الحذِر في طريقة التقييم؟ وهل يبحث المصرف المركزي عن تضخيم الثروة بالاحتياطيات ليرسل رسالة معينة حول استدامة الاحتياطيات طالما أن موجة ارتفاع أسعار الذهب عالميًا مفيدة؟
في المقابل نجد أن التقرير لا يتعاطى مع الواقع الصعب جدًا كأزمة السيولة والطلب الجامح على النقد الأجنبي، والذي وجد المصرف المركزي نفسه فيه بسبب تعطل قدرته على إدارة السياسة النقدية بسلاسة ومهنية.
التقرير الشهري للمصرف المركزي يشير إلى تحقيق فائض بين الإيرادات الحكومية والإنفاق الحكومي، ولكن أيضًا ذلك يرسل إشارة مبهمة جدًا كونه لا يتضمن إلا إنفاق حكومة واحدة من الحكومتين، ولم يقدم لنا المصرف المركزي — على الأقل — مقدار تمويله للحكومة الأخرى بشكل شهري حتى نفهم بوضوح. ويكتفي من حين لآخر بأن يقدم لنا معلومات عن تزايد الدين العام الذي يقوم المصرف المركزي نفسه بتمويله منفردًا.
لا خلاف على أن مصرف ليبيا المركزي يعمل في ظروف قاسية ومرتبكة، ولكن ذلك لا يُغني عن تقديم كل شيء على حقيقته في الوقت المناسب.