قال رجل الأعمال الليبي “حسني بي” في تصريح حصري لصحيفة صدى الاقتصادية: رغم الموارد النفطية الضخمة، يواصل الاقتصاد الليبي السير على حافة عدم الاستدامة؛ فالأرقام المتصاعدة للإنفاق، وتراجع أسعار النفط، وأزمة السيولة المستمرة، بالإضافة إلى نموذج اقتصادي رُسِم حتى لا يعمل، كلها مؤشرات على خلل أعمق من مجرد نقص في النقود أو عجز بالميزانية العامة.
مضيفًا: في هذا التحقيق نستعرض تشخيصًا اقتصاديًا للوضع الراهن، ونبحث في أسبابه وتداعياته، ونناقش السيناريوهات المحتملة للعامين القادمين. اقتصاد غير مستدام رغم الإيرادات خلال عام 2025، عكس الوضع الاقتصادي في ليبيا أزمة بنيوية عميقة، حيث سوف يتجاوز حجم الإنفاق العام 230 مليار دينار ليبي، شاملاً الإنفاق المعلن وغير المعلن، والظاهر والمخفي، في وقت شهدت فيه أسعار النفط تراجعًا ملحوظًا من مستويات تقارب 75 دولارًا للبرميل في بداية العام إلى ما دون 60 دولارًا خلال الربع الأخير منه.
قال كذلك: هذا التراجع أدى إلى فجوة واضحة بين الإيرادات والمصروفات تُقدَّر بأكثر من 30 مليار دينار، ما وضع المالية العامة أو مصرف ليبيا المركزي أمام عجز متنامٍ يهدد الاستقرار الاقتصادي.
تابع بالقول: الإنفاق المنفلت السبب الرئيسي للاختلال.
يرجع هذا الاختلال المالي ـ وفق التقديرات الاقتصادية ـ إلى الإنفاق العام غير المنضبط ومتعدد القنوات، خاصة في بنود المرتبات، ودعم المحروقات، والمصروفات التسييرية، إضافة إلى أكثر من مجرد ازدواجية في الإنفاق الاستثماري، دون وجود إيرادات حقيقية تغطي هذا الحجم الكبير من المصروفات.
وأضاف: ولسد هذا العجز، جرى المركزي مضطرًا إلى تمويل جزء معتبر من الإنفاق عبر بيع العملة الأجنبية، بل واستخدام جزء من الاحتياطيات المقومة بالدولار، وهو مسار يضعف الموقف المالي للدولة على المدى المتوسط والطويل، خاصة في التمويل الاستهلاكي مثل المرتبات والمحروقات وما بحكمهما.
وبحسب “بي”، فإن أزمة السيولة أزمة ثقة لا نقص نقود.
وعلى عكس ما يُشاع، لا تعاني ليبيا من نقص في النقود، فحجم عرض النقود تجاوز 190 مليار دينار، وهو من أعلى المستويات إقليميًا مقارنة بالتعداد السكاني. ومع ذلك، تستمر المصارف التجارية في مواجهة نقص حاد في السيولة، وهذا التناقض يؤكد أن الأزمة أزمة ثقة بالأساس بين المودعين والجهاز المصرفي، نتيجة غياب أدوات ومنتجات مالية تشجع الادخار والاستثمار، وتناقض السياسات النقدية، ومنها العمل بتحريم الفائدة في منطقة وتطبيقها في منطقة أخرى، ما عمّق حالة الارتباك وفقدان الثقة.
واستطرد بالقول: سعر الصرف الثابت سياسة فاشلة تتكرر منذ عقود، تتبنى ليبيا سياسة تثبيت سعر الصرف، ورغم ثبوت فشلها في السياق الليبي ما زالت مستمرة. هذه السياسة خلقت فجوة سعرية كبيرة، وحوافز قوية للمضاربة على الدولار، وأسهمت في تغوّل السوق الموازي، وشجعت على اكتناز النقد خارج الجهاز المصرفي، كما أضعفت هذه السياسة دوران النقود داخل الاقتصاد، وزادت الضغط على الدينار الليبي، وفاقمت أزمة السيولة، بل وأسهمت في ظاهرة حرق النقود نتيجة تكدسها خارج المنظومة المصرفية.
قال “حسني بي” أيضًا: ويُعاد طرح السؤال مجددًا على صناع القرار: ألم يحن الوقت لتغيير النهج، وتبني سياسات نقدية أكثر مرونة، وسعر صرف يعكس الواقع الاقتصادي بدل تكرار الأخطاء؟
2026.. ضغوط متزايدة وتضخم محتمل في حال استمرار السياسات الحالية دون إصلاحات حقيقية، خصوصًا فيما يتعلق بإعادة هيكلة علاقة مؤسسة وشركات النفط بين بعضها ومن ثم علاقتها التمويلية والمالية بالحكومة، وإعادة النظر بسياسات سعر الصرف ليتحول إلى مرن بدل الثابت، وضبط الإنفاق العام، فمن المتوقع أن يشهد عام 2026 مزيدًا من الضغوط على سعر الدولار وارتفاعًا جديدًا في الأسعار ومعدلات التضخم.
متابعًا: ويُعزى ذلك إلى استمرار العجز في الميزانية العامة أو الإنفاق المزدوج، وتآكل الثقة في السياسات الاقتصادية، ما يضعف قدرة الدولة على احتواء الصدمات المستقبلية.
ما الحل؟ الإصلاح يبدأ من تغيير النموذج
الإصلاح الحقيقي ـ وفق الرؤية الاقتصادية المطروحة ـ لا يتحقق عبر الاستمرار في نفس السياسات أو استخدام الآليات ذاتها، ومنها قطاع نفطي يُعامل كمكتب بريد بدل التعامل معه كمؤسسة اقتصادية مستقلة. والحل لا يكمن في طباعة المزيد من النقود، بل في ضبط وترشيد الإنفاق العام، ومن أهمها تجميد التوظيف ورفع الأجور للتشجيع على العمل الخاص، وتوحيد القرارين المالي والنقدي، واعتبار النقود أداة تبادل حرة وليست أداة سيطرة أو مجرد وسيلة.
تعزيز الشفافية والمساءلة، وإعادة تعريف دور الدولة ليقتصر على وظائفها الأساسية: التعليم، والصحة، والبنية التحتية، والحوكمة، مع فتح المجال أمام القطاع الخاص والمنافسة الحقيقية.
وأضاف بالقول: الخلاصة.. أزمة نموذج قبل أن تكون أزمة سيولة
الأزمة الليبية ليست طارئة، بل بنيوية. فالدولة تسيطر على نحو 85% من الناتج المحلي الإجمالي عبر شركات وأجهزة ومؤسسات عامة أثبتت فشلها على مدى أكثر من خمسة عقود. أما نقص السيولة وعجز الميزانية، فليسا إلا عرضًا لمرض أعمق يتمثل في نموذج اقتصادي مختل، غير قابل للقياس، وسياسات أفرغت المؤسسات من مضمونها وأفقدت المواطن ثقته بها. فالسيولة والمال والثروة لا تُخلق بالمطابع ولا بالشعارات، بل بالثقة، وبالبدء في تنفيذ قانون 23/2010 بكامل نصوصه، الذي ـ للأسف ـ يرفض الموظف العام تطبيقه منذ 16 سنة. وأي إصلاح حقيقي يبدأ بتغيير النموذج الاقتصادي القائم وتطبيق القوانين، واستعادة ثقة المواطن في الدولة ومؤسساتها وجهازها المصرفي.
واختتم قائلاً: وأخيرًا أوصي بتوحيد الإنفاق العام، والتوقف عن إنشاء شركات ملكية عامة، بل وتصفية كل من الشركات الواجبة تصفيتها قانونًا، وتطبيق مرتبك لحظي على جميع الجهات الممولة من الميزانية العامة، واستبدال الدعم نقدًا لتحقيق عدالة التوزيع، وتفعيل برنامج التتبع للشحنات ACI، والتحرير الكامل للاقتصاد حتى نعامل العملة كسلعة. وعلينا تبني سياسات صرف مرنة أو حتى حرة، واعتبار ليبيا منطقة حرة بأكملها؛ فالإمارات ليست أفضل منا استراتيجيًا.