أبوسنينة يكتب: حول الركود التضخمي .. تقييم حالة الاقتصاد الليبي

787

كتب الخبير بالشأن الاقتصادي “محمد أبوسنينة” مقالةً بعنوان:”حول الركود التضخمي او الكساد التضخمي : ( تقييم حالة الاقتصاد الليبي )” ؛.

سنحاول في هذا الادراج ، تناول الموضوع في جزئين ، نعرض في الجزء الاول تشخيص الحالة ، والتثبت من حالة الركود التضخمي والاسباب والعوامل التي اوصلت الاقتصاد الليبي الى هذا الوضع ، ونتناول في الجزء التاني السياسات الاقتصادية التي يمكن اتباعها للخروج بالاقتصاد من حالة الركود والاجراءات التي على الحكومة والجهات المعنية اتباعها لاحتواء المشكلة . وقد اضطررت لتقسيم الإدراج على هذا النحو نظراً لطول المقال ولتسهيل مهمة القارئ والمهتمين في الاطلاع والمتابعة .


       الجزء الاول :

‎يهيمن موضوع الركود التضخمي على اهتمامات الاقتصاديين ورجال الاعمال وحتى بعض السياسيين ممن يمارسون وظائف على راس مؤسسات الدولة السيادية . وكل يتناول الموضوع بطريقته الخاصة ، ويقترح السياسات التي يراها مناسبة من وجهة نظره وفهمه للموضوع ، وهناك من ينفي وجوده اصلا . مصطلح الركود التضخمي (stagflation ) مصطلح غير جديد ، و يعبر عن تناقض اقتصادي ، لم يعده الاقتصاديون قبل السبعينيات من القرن الماضى ، حيت يعني وجود انخفاض او تراجع في معدل النمو الاقتصادي مصحوبا بارتفاع في المستوى العام للاسعار ( اي وجود علاقة عكسية بين النمو الاقتصادي والتضخم ) وفي ذات الوقت يكون التضخم في الاسعار مصحوبا بارتفاع معدلات البطالة على نحو ملحوظ ( اي وجود علاقة طردية بين التضخم والبطالة ) فوق المعدلات الطبيعية المقبولة او المتعارف عليها .

فاذا كان الارتفاع في الاسعار ينتج عن زيادة الانفاق الكلي والطلب الكلي فكيف يكون ذلك مصحوبا بمعدلات بطالة مرتفعة ، الا تعني زيادة الطلب الكلي ، وفقا للنظرية الكنزية ، خلق فرص عمل جديدة وانتعاش القطاعات الانتاجية ؟ ولكن هذا لم يحدت في الاقتصادات الغربية المتقدمة . وهذا هو التناقض الذي يعبر عنه ، مايعرف في الادب الاقتصادي بمنحنى فليبس ( Philips Curve ) وصار هذا الامر يشكل معضلة للسياسة الاقتصادية لان ما يتخذ من اجراءات بهدف السيطرة على التضخم او خفض معدلاته قد تؤدي الى زيادة معدلات البطالة . واستمر هذا الفكر الى ان ظهر ما عرف بالكنزيين الجدد ومن تم النقديين الذين اكدوا امكانية حدوت مثل هذه الحاله واتوا بتفسير اقتصادي لها .

وبالنسبة للحالة الليبية ، التي نحن بصددها ، ايضا نلاحظ ان الزيادة في الانفاق العام والميزانيات العامة الفلكية، طوال السنوات العشر الماضية ، لم يصاحبها دعم نشاطات انتاجية ، وخلق فرص عمل خارج القطاع العام وانخفاض معدلات البطالة ، واصبح الاقتصاد يعاني من ارتفاع الاسعار من وقت لاخر . اي ان المشكلة الحقيقية تكمن في ان الاقتصاد الليبي لم يشهد نموا حقيقيا لعدة سنوات متتالية ، بل ان معدلات النمو في الناتج المحلي الاجمالي تراجعت في بعض السنوات ، وان ما يشار اليه في بعض التقارير الدولية على انه زيادة في معدل النمو الاقتصادي في ليبيا لا يتعدى تلك الزيادة في الناتج المحلي النفطي فقط ، خلال السنوات المحدودة التي شهدت انتظاما في تصدير النفط او تحسنا في اسعاره العالمية ، اما بالنسبة للناتج المحلي غير النفطي فلم يشهد نموا حقيقيا يذكر لعدة سنوات واستمر في الانكماش من سنة الى اخرى ، لاسباب متعددة ، ياتي على راسها حالة عدم الاستقرار والتشظي التي تشهدها ليبيا ، والتوقف من فترة لاخرى عن استخراج النفط وتصديره ، وازمة السيولة ، والسياسات الاقتصادية او المعالجات التي اتبعت في مواجهة الازمة التي يعاني منها الاقتصاد . فقد انخفض انتاج قطاع تجارة الجملة والتجزئة من 5.487 مليون دينار في عام 2016 الى 1.922 مليون دينار في عام 2019 وبنسبة انخفاض تقدر بحوالي 65% . وانخفضت مساهمة قطاع النقل والتخزين والاتصالات في الناتج المحلى الاجمالي من 3.95 مليون دينار في عام 2016 الي 2.138 مليون دينار في عام 2019 , وبنسبة انخفاض تقدر بحوالي 45%. وبصفة عامة فقد انخفض حجم الناتج المحلي لمجموع الانشطة غير النفطية من 51.942 مليون دينار في عام 2016 الى 41.794 مليون دينار في عام 2019 , وبنسبة انخفاض تقدر 19.5% ، بالاسعار التابتة ، وفقا للبيانات الاحصائية الصادرة عن مصرف ليبيا المركزي . وهذه الموشرات تبين ان الاقتصاد الليبي كان قد دخل بالفعل في حالة ركود اقتصادي منذ عام 2019 . هذا الامر ، مع مرور الزمن ، انتهى الى تجسّد حالة الركود التضخمي التي نشهدها اليوم ( بطء النمو والتضخم والبطالة ) .

واذا كان الركود يتحقق ، وفقا لادبيات الاقتصاد ، عندما ينخفض معدل النمو في الناتج المحلي الاجمالي لفصلين متتالين او اكتر ، فما بالك اذا انخفض معدل النمو الاقتصادي لعدة سنوات متتالية وكان النمو سلبيا في بعض السنوات ( انكماش ) هذا يعني ان الركود الاقتصادي موجود في الاقتصاد الليبي دون ادنى شك . والعامل الاشد خطورة ، والذي تمتد اثاره لتمس مختلف المتغيرات الاقتصادية الاخرى ، هو التضخم او الارتفاع المستمر في المستوى العام للاسعار ، وخصوصا الرقم القياسي لتكلفة المعيشة .

وقد بدات موجة التضخم في الاقتصاد الليبي منذ عام 2019 مع بداية الركود ، ولا زالت مستمرة . اذ لم تنجح السياسات الاقتصادية التي اتبعت خلال السنوات الست الماضية في السيطرة على التضخم و معالجة المختنقات والمشاكل التي عانى منها الاقتصاد الليبي ، ذلك لان العوامل المحفزة للتضخم كان تاثيرها اقوى من تلك العوامل الكابحة له .ولم تسهم تلك السياسات او الاجراءات في دعم وتيرة النمو الاقتصادي ، بل ان بعض السياسات ساهمت في تفاقم الاوضاع وزادت الأمر سواءً . فاستخدام سياسة تغيير سعر الصرف مثلا ، والتي بدات بفرض رسم على مبيعات النقد الاجنبي من قبل المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق ، لتمويل الميزانية ، وبمعزل عن وضع ميزان المدفوعات ، و دون اعمال سياسات اقتصادية اخرى مصاحبة ، حتى فيما لو كان هذا الهدف غير معلن ، او كان الهدف هو اصلاح سعر صرف الدينار الليبي ، فقد كانت نتيجته اقرار سعر صرف لم يحقق الاستقرار الاقتصادي المنشود ، بل اوجد اساس جديد للتسعير بدات تظهر اثاره الان ، عززته الاجراءات اللاحقة التي قام بها مجلس ادارة مصرف ليبيا المركزي ، وتعززت معه قدرة الحكومة على تمويل الانفاق العام والتوسع فيه ، وتهيئة البيئة لاقرار ميزانيات عامة فلكية في المستقبل . وقد حدرنا من ذلك مراراً . وان كان الانفاق العام قد وصل الى ارقام قياسية في بعض السنوات ، بفضل تخفيض سعر الصرف الرسمي للدينار ، الا ان هذا الانفاق كان جله انفاقا استهلاكيا ، وعلى حساب التنمية الاقتصادية ، ولم يساهم في دعم الاستثمار و تكوين راس المال الثابت او خلق فرص عمل جديدة خارج القطاع العام .

الركود التضخمي ، اينما وجد ، هو نتيجة لتطبيق سياسات اقتصادية خاطئة او متعارضة ينتج عنها ارسال اشارات متناقضة ( للسوق ) للبائعين والمشترين والموردين . وفي حالة الاقتصاد الليبي ، نجد من جهة ، هناك توسع في الانفاق العام ، الذي يعتبر احد مصادر الطلب على النقد الاجنبي ، ومن جهة اخرى رفعت القيود التي كانت مفروضة على استعمالات النقد الاجنبي ، مع تثبيت سعر الصرف ، بمعنى تطبيق سياسات غير متسقة . و في الاساس فقد ادت زيادة الانفاق العام ، وتمويله بالعجز في بعض السنوات في السابق ، وتراكم الدين العام المحلى ليصل اضعاف الناتج المحلي الاجمالي ، الى تولد ضغوط على سعر صرف الدينار الليبي ، اذ لم يتمكن المصرف المركزي ، في مواجهة هذه الضغوط ، من الصمود و المحافظة على استقرار سعر الصرف ، وعلى النحو الذي تم توضيحه ، الامر الذي اضطره الى تخفيض القيمة التعادلية للدينار الليبي مقومة بحقوق السحب الخاصة لتصبح 0.15555 وحدة سحب خاصة لكل دينار ، وفقا لما اسفر عنه قرار مجلس ادارة مصرف ليبيا المركزي رقم ( 1 ) لسنة 2020 ليصبح سعر صرف الدينار الليبي مقوما بالدولار الامريكي عند 4.48 دينار لكل دولار امريكي واحد ، اعتبار من يناير 2021 . هذا السعر الجديد لم يكن سعرا توازنيا او تعادليا . وقد ترتب عليه توجيه رسالة خاطئة للسوق ، عندما توقع المتعاملون في السوق اعتبار هذا السعر سعرا افتتاحيا قد يلحقه تعديل لاحق وسريع وصولا الى السعر التوازني المطلوب ، والذي كان من المتوقع ان يساهم في تخفيض اسعار السلع المستوردة ، وفقا لتصور كامل لاصلاح سعر صرف الدينار الليبي . ولكن لم يجري اي تعديل لاحق على سعر الصرف وصارت الميزانيات العامة للدولة تعد على اساس السعر الجديد ، وصارت السلع التي يتم استيرادها تسعّر على اساس السعر الجديد . وبالرغم من ذلك شهد ميزان المدفوعات عجزا في بعض السنوات .

وقد انفلت صمام الانفاق العام ، وبدا التضخم يلتهم مدخرات المواطنين ، وانخفض حجم الودائع تحت الطلب التي تخص الافراد لدى المصارف ، وبدات علامات الركود الاقتصادي تظهر وتتفاقم . فقد انخفضت العملة لدى الجمهور من 39.7 مليار دينار في نهاية عام 2020 الى 30.39 مليار دينار في نهاية الربع الثاني من عام 2022 وبنسبة انخفاض تقدر بحوالي 23.4% . ومن ناحية اخرى فقد زادت المستحقات على الخزانة العامة من 96.380 مليار في نهاية عام 2021 الى 118.858 مليار دينار في نهاية الربع التاني من عام 2022 .
وفوق كل ذلك فقد انخفضت ودائع المصارف التجارية ( مجموع الودائع تحت الطلب والاحتياطيات القانونية الالزامية ) لدى مصرف ليبيا المركزي من 24.759 مليار دينار في نهاية عام 2021 الى 18.714 مليار دينار في نهاية الربع التاني من عام 2022 اي بنسبة انخفاض تقدر بحوالي 24% ، حسب البيانات الواردة بالنشرة الاقتصادية الصادرة عن مصرف ليبيا المركزي .
كل هذه المؤشرات تبين عدم كفاية السيولة المتاحة في الاقتصاد وعدم كفاءة توجيهها لتمويل وتحريك النشاط الاقتصادي في ليبيا ، مما عزز حالة الركود التي يشهدها الاقتصاد اليوم ، وهذا يعني ايضا ان المناداة بسحب السيولة في السابق ، بهدف التحكم في المعروض النقدي ، اعتقادا منهم بان التضخم في ليبيا يعتبر ظاهرة نقدية ، وللمحافظة على الاحتياطيات ، لم تكن صائبة، وفاقمت من حدة المشكلة . حيث لم يشهد الاقتصاد نمواً يذكر في الائتمان المصرفي او توفير التمويل المطلوب لاقامة مشروعات جديدة ، وهذا يعني ان التضخم الحالي في الاقتصاد الليبي ليس نتيجة للتوسع النقدي او اتباع سياسة نقدية توسعية في السابق.

وقد اثرت هذه المعطيات والاوضاع سلبا في القدرة على اقتناء السلع وطلب الخدمات في الاقتصاد ، وتعذر تاسيس مشروعات انتاجية جديدة لدى القطاع الخاص ، حيت لم تعد الكتلة النقدية المتداولة كافية لتمويل تأسيس مشروعات انتاجية و لامتصاص الفائض المتوفر من السلع المستوردة المتاحة في الاسواق ، وبالرغم من ذلك لم تنخفض الاسعار للاسباب التي تم التنويه عنها فيما سبق عرضه . بالاضافة الى ذلك لم تتخد اية اجراءات من شانها الحد من الاثار السلبية الناجمة عن الازمة الاقتصادية المترتبة على الحرب الروسية الاوكرانية الاخيرة ، المتمثلة في ارتفاع اسعار الحبوب وزيوت الطعام وبعض السلع الاخرى ، وهي الازمة التي دفعت اسعار النفط لتتجاوز حاجز 120 دولار للبرميل ، وعوضا عن الاستفادة من هذه الطفرة في اسعار النفط تم ايقاف استخراج وتصدير النفط في مختلف الحقول والمواني النفطية في ليبيا ، مما ضيع فرصة كبيرة لتنمية احتياطيات النقد الاجنبي ، والتي كان يمكن استخدام جزء منها للتخفيف من حدة الازمة ، بهدف التخفيف من حدة ارتفاع اسعار السلع المستوردة نتيجة ارتفاع الاسعار العالمية للسلع الغذائية ، مع عدم وجود شبكة امان مالي او شبكة حماية اجتماعية ، وذلك خلافا لما قامت به الكتير من الدول الاخري للتخفيف من اثار الازمة على مواطنيها واقتصاداتها .