خبير اقتصادي يكتب عن الوضع الاقتصادي ما بعد أزمة كورونا للاقتصاديات النامية وآثاره السياسية

444

كتب الخبير النفطي والمهتم بالشأن الاقتصادي د.محمد أحمد

يتناول الكثير من الاقتصاديين والمحللين توقعاتهم للاقتصاد العالمي ما بعد انتهاء أزمة وباء كورونا، أطلعت على الكثير من المقالات التي حاولت بناء اتجاهات تحليلية تشبه إلى حد كبير إعادة رسم خط بداية جديد لسباق عالمي محموم للخروج من آثار ركود اقتصادي كبير متوقع.

طبعا خط البداية الافتراضي الجديد هذا هو خط مختلف عن الوضع السابق أي ما قبل كورونا يتصور فيه الكثير إعادة تشكيل التحالفات بين المتسابقين في تكتلات جديدة تهدف أساسا إلى عرقلة الآخرين من الانطلاق السريع والظفر بملء أكبر قدر من الفراغ الذي ستحدثه الأزمة.

وبينما يتأثر هذا الفكر كثيرا بمبادئ الاقتصاد السياسي المبني إلى حد كبير على الأساسيات الميكافيلية ويرجع تاريخيا إلى التحولات الهيكلية الجذرية التي حدثت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على مستوى الاقتصاد العالمي وقد يكون له نصيب كبير من الحقيقة، إلا أننا يجب أن نأخذ حقيقة غاية في الأهمية في الاعتبار وهي أن الأزمة الحالية لم تكن حتى الآن أزمة تحطيم مقدرات إنتاجية بقدر ما هي أزمة بشرية، هذه الحقيقة تقود إلى استنتاج منطقي وهي أن المتسابق هو المتضرر وليس المركبة وبمجرد تعافي السائق فإنه سيقود مركبته التي لها نفس المزايا التنافسية تجاه المركبات الأخرى، وهذا يعني أن الآثار الحقيقية هي جانبية، إما تأخيرية أو سيكولوجية والتي قد تقود إلى تخلف المتسابق عن ركب المنافسة.

ورغم أهمية ما سيحدث على مستوى الاقتصادات المتقدمة إلا أنه وفي العمق قد لا يعيننا نحن الذين نعيش في مجال الاقتصادات النامية، تاريخيا الدول النامية أو ما كان يطلق عليه بعد الحرب العالمية الثانية مصطلح دول “العالم الثالث” أو “العالم الآخر” لم تكن سوى رافدا اقتصاديا لدول العالم الأول أساسا وأحيانا لدول العالم الثاني “إذا ما صدقنا بوجود عالم متوسط بين الأول والثالث” بعد انحسار حركة الاستعمار الحديث، ومن أجل مرجعية سريعة غير أكاديمية لهذه الحقيقة علينا بالعودة إلى أفلام “جيمس بوند” التي كانت تصور معظم هذه الدول إما كمصائف نقية للمجتمعات الصناعية أو كحدائق برية طبيعية للمغامرين من العالم الأول.

لا شك أن الثلث الأخير من القرن العشرين شهد تغيرا جذريا في هذا الاتجاه بفضل متغيرين أساسيين هما سيطرة الدول النامية على مواردها الطبيعية والظهور الفعلي للعالم الثاني أو العالم المتوسط على مسرح الاقتصاد والسياسة العالميين، وفي حقيقة الأمر فإن الحركات النازية والفاشية التي تم هزيمتها من قبل الحلفاء كان أثرها إيجابيا على كتلة الدول النامية مستفيدة بالتسامح العالمي الذي فرض كمظهر سياسي لرد الفعل على الممارسات الشيفونية والعنصرية الأوربية والأمريكية.

كان تأسيس منظمة أوبك حافزا قويا لمجموعة منتجي المواد الخام عبر العالم للتخلص كليا أو جزئيا من الاحتكارات الأمريكية والأوربية لمناجم وحقول إنتاج هذه المواد، ومن هنا حدث تغيير هيكلي في الطريقة التي يتم بها توزيع الثروات عالميا بحيث بدأت التدفقات النقدية تتجه بقوة إلى منتجي هذه المواد في قارات العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، في ذروة الحرب الباردة لم يكن للنظام الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة سوى مسايرة هذا الاتجاه على مضض، خصوصا وإن الثروات المتراكمة لهذه الدول تم الاستفادة منها من خلال إعادة تدويرها في المؤسسات الرأسمالية التي لم تستطع الآليات الاشتراكية منافستها لعدم وجود سياسة استثمارية واضحة لديها.

الاختراق الآخر جاء من صعود “العالم الثاني” كوسيط بين العالم الأول والعالم الثالث، وهو كتلة من الدول تفتقد الموارد الطبيعية ولكنها تزخر بالموارد البشرية الكفؤة والقادرة على الدفع بالاقتصاد إلى مراحل صناعية متقدمة عن طريق نسخ التقنية وتطبيقها محليا. كانت بداية هذا الاختراق من اليابان حين استطاعت أن تنسخ التقنيات الغربية الميكانيكية والالكترونية لتقديم بديل صناعي متميز عن النموذج الغربي، لا بد للكثيرين والذين من جيلي يتذكرون المنافسة بين شفروليت ونيسان أو هارلي دايفدسون وهوندا أو فيليبس وسوني، في البداية ألعاب صغيرة ضد ديناصورات متوحشة ومن ثم آليات متقنة ضد آليات قبيحة. الاختراق الآسيوي اعتمد على ميزتين لم يكن للاقتصاد الغربي أن يسايرهم فيها وهي العمالة الرخيصة والانتظام الصارم في الإنتاج، ففي فترة توالت فيها الإضرابات العمالية والمطالبات برفع الأجور في الغرب كان الاقتصاد الآسيوي ينتظم بصورة مدهشة منافسا الرأسمالية الغربية ما دفع إلى ظاهرة هجرة الصناعة إلى الشرق.

ظهور العالم الثاني أو الاقتصادات الناشئة هنا كان مفتاح التنمية والتطور في منطقتنا العربية، حيث تسارعت خطى التنمية في المنطقة بداية من منتصف السبعينات مع دخول شركات عملاقة في مجالات البنية التحتية للمنطقة من الاقتصادات الناشئة، شركات مثل دايوو وهونداي وسامسونج الكورية وجاي بي القبرصية وشركات متوسطة من البرازيل وتركيا والهند ومصر قامت بإنشاء بنية تحتية حديثة في الكثير من دول المنطقة من طرق ومطارات وشبكات صرف صحي ومؤسسات صحية وخدمية وهي التي لا تزال تعتمد عليها دولنا حاليا، لم يكن للرأسمالية الغربية اهتمام كبير كما أشرت بهذه البنية التحتية اللازمة لدولنا إلا بقدر ما يوفره من تسهيلات لجالياتهم في المنطقة، بينما استطاعت الدول الوسطى من نقل التكنولوجيا الحديثة إلى المنطقة بكلفة اقتصادية أقل بكثير مما كانت ليوفره الغرب إلى اقتصادات المنطقة.

اليوم وما بعد كورونا فإن الجميع سيستقل مركبته من جديد لانطلاق السباق، الغرب سيستقل مركبته المعتمدة على التقدم التكنولوجي، والشرق سيستقل مركبته المعتمدة على العمالة الرخيصة، ونحن سنستقل مركبتنا المعتمدة على امتلاكنا لموارد طبيعية (فائضة عن حاجتنا) للعودة إلى السباق، الصورة قد تبدو واضحة فإن حاجة العالم الثاني لنا وحاجتنا إليهم بالتبادل لازالت مستمرة، إلا أنه سيعاني من فجوات مالية استثمارية خطيرة ناتجة عن ارتباك تدفق المخزونات، بينما سيحتاج العالم الأول إلى السيطرة على توازنه الاجتماعي قبل كل شيء لتجنب تكرر ظاهرة الاحتجاجات النقابية والعمالية التي سيطرت عليه من الستينات إلى منتصف الثمانينات قبل أن تقمعها تماما مارغريت ثاتشر بالخصخصة.

ولا بد من التشديد أن المنطقة ستحتاج إلى إعادة تفعيل الكثير من التعاون الإقليمي سواء كان على الصعيد السياسي أو الاقتصادي والذي يشبه ما كان سائدا في الفترة ما بعد الخمسينات حتى بداية حرب الخليج الثانية لتجاوز عقبات أساسية وتجنب تغييرات مؤلمة متوقع أن يشهدها العالم ليس بسبب كورونا فقط بل ربما كانت كورونا هي العامل المسرع والمحفز له.