تحدث أستاذ الاقتصاد بالأكاديمية الليبية “أ.د.عمر زرموح” في تصريح لصحيفة صدى الاقتصادية يتعلق بما ورد في تقرير مصرف ليبيا المركزي عن شهر أغسطس 2024 عن الدين العام حيث سئل: ” كم قيمة الدين العام وهل فعلاً أصبح بقيمة صفر بأقل من شهر، وأن المصرف المركزي تنازل على الديون المتراكمة على الحكومة؟” حيث قال:
• السؤال عن قيمة الدين العام التي قال المصرف المركزي إنه تم إطفاؤها وأن الدين العام أصبح الآن صفراً يجب أن يجيب عنه المصرف المركزي نفسه إن أراد أن يكون واضحاً وشفافاً. أما بهذا الغموض الذي لا نرى له مبرراً فإننا سنلجأ إلى تقدير حجم الدين العام.
• بالرجوع إلى النشرة الاقتصادية لمصرف ليبيا المركزي عن الربع الأول لعام 2024 وتحديداً الجدول رقم (5) يتضح جلياً أن حجم الدين العام قد بلغ 84104.9 مليون دينار أي 84 مليار دينار (تقريباً)، لكن من غير الواضح إن كان يشمل الدين العام الذي تم إطفاؤه ذلك الجزء الذي تعتبره الحكومة في شرق البلاد ديناً عاماً والذي قدره ديوان المحاسبة في تقريره عن عام 2021 (صفحات 42-44) بمبلغ 60680 مليون دينار أي 61 مليار دينار وبذلك قد يكون إجمالي الدين العام 84+61=145 مليار دينار. لكن بعد ظهور الحكومة الثانية في الشرق من غير المتوقع أن يبقى الرقم 61 مليار دينار ثابتاً، وقد لا نستبعد تصريح السيد وزير الاقتصاد الذي قال فيه إن الدين العام بلغ 200 مليار دينار.
• رغم الاضطراب في تقدير الدين العام بسبب غياب الشفافيةوخاصة من جانب حكومة الشرق إلا أنه يجب أن أشير إلى الآتي: (أ) يتحدد سقف الدين العام في كل سنة وفقاً لقانون الميزانية الصادر عن السلطة التشريعية أو وفقاً للترتيبات المالية المنصوص عليها في الاتفاق السياسي، ولا ينبغي أن يعتد بأي دين عام ينجم عن تصرفات بالمخالفة لذلك. (ب) لقد نص تقرير المصرف المركزي على الآتي: “يؤكد مصرف ليبيا المركزي أن الدين العام المقيد في دفاتره قد تم إطفاؤه وأصبح صفراً ويجري اتخاذ القيود الدفترية اللازمة بالخصوص” وهذا يعني أن ما يقصده المصرف هو الدين العام المقيد في دفاتره ولا يقصد أي دين عام غير مقيد في دفاتره. وقد اتضح من النقطة السابقة أن الدين العام المقيد في دفاتر المركزي يساوي 84 مليار دينار حتى 31/03/2024 لكن مازلنا لم نعرف إن كان المصرف قد أجرى قيوداً أخرى للدين العام خلال الفترة من 01/04/2014 إلى 31/08/2024 وخاصة بعد أن أقر المحافظ السابق بشكل أو بآخر قبول العملة المطبوعة في روسيا، وهذا ما كان يجب أن يوضحه المصرف في تقريره بكل شفافية.
مُضيفاً: النقطة الثانية تتمثل في أنه من يملك أو من له الحق في اتخاذ قرار بإطفاء الدين العام ليس المحافظ ولا مجلس الإدارة ولا من اختصاصه اتخاذ مثل هذا القرار لأن دوره هو إدارة هذه الأموال التي بحوزة المصرف المركزي وليس دوره أن يمتلك هذه الأموال أو يتصرف فيها كما يشاء دون مراعاة حق المالك الحقيقي لهذه الأموال وهو الشعب ممثلا في السلطة التشريعية. صحيح لدينا مشكلة في شرعية السلطة التشريعية التي تتمثل في مجلس النوابالحالي لكن قد يخفف من حدة هذه المشكلة اللجوء للتوافق بين مجالس النواب والدولة والرئاسي وهذا شأن سياسي يخرج عن نطاق موضوعنا الحالي، وإنما كان القصد من الإشارة إليه هو أن نلفت النظر إلى أن إطفاء الدين العام عمل ليس من شأن مجلس إدارة المصرف المركزي. وكما ذكر آنفاً فإن إنشاء الدين العام لا ينبغي أن يكون إلا بناءً على قانون الميزانية أو ما في حكمه (الترتيبات المالية) وبالتالي فإن إطفاء الدين العام يجب أن يتم بنفس الطريقة. إن وجود دين عام يعني أن الطرف المدين هي الخزانة العامة والطرف الدائن هو المصرف المركزي وأن حقوق الملكية بالمصرف المركزي هي ملك للشعب من خلال سلطته التشريعية وبالتالي فإن سداد الدين العام خصماً من حقوق الملكية أمر تقرره السلطة التشريعية المالكة لرأس المال والاحتياطيات والأرباح وما في حكمها ولا يجوز في أي مؤسسة أن يقرر التصرف في حقوق الملكية غير المالك ما لم يقم المالك بتخويل مجلس الإدارة التصرف بشكل واضح ومحدد.
تابع بالقول: إذا أمعنا النظر في الصياغة التي وردت في تقرير المصرف المركزي عن شهر أغسطس بشأن الدين العام قد نستنتج أنها صياغة لا تفيد إطفاء الدين العام حقيقةً لأن عملية إطفاء الدين العام يجب أن تمر بالخطوات الآتية: (أ) إصدار قانون من السلطة التشريعية بإطفاء الدين العام جزئياً أو كلياً أو على مراحل كما في القانون رقم (15) لسنة 1986 وأن يحدد القانون مصدر التمويل.(ب) يقوم المصرف المركزي بتنفيذ قانون الدين ويجري القيود المحاسبية اللازمة لذلك أي إعداد واعتماد مذكرات القيد مرفقاً بها المستندات الضرورية. (جـ) تسجيل مذكرات في دفاتر الأستاذ بالمصرف المركزي يدوياً أو إلكترونياً وبذلك يكون قد تحقق إطفاء الدين العام كلياً أو جزئياً وفقاً لنص القانون. وعلى هذا الأساس فإن الصياغة المشار إليها التي تقول “قد تم إطفاؤه وأصبح صفراً ويجري اتخاذ القيود الدفترية اللازمة ” تفيد أن المصرف مازال لم يقم بعد بإجراء القيود المحاسبية، فإذا قام المصرف في نهاية شهر أغسطس بإعداد قائمة المركز المالي فإن الدين العام سيظهر دون تغيير، هذا ناهيك عن عدم وجود قانون يستند إليه المصرف في اتخاذ هذا الإجراء.
استطرد “زرموح” قائلاً: النقطة الثالثة وهي ما مدى إمكانية إطفاء الدين العام بفرض أن مجلس الإدارة سيتجه للسلطة التشريعية بكل ما لها وما عليها (وكما ذكر آنفاً قد يكون هناك تشاور مع مجلس الدولة والمجلس الرئاسي) ويقترح إطفاء الدين العام محدداً القيمة المراد إطفاؤها ومصدر التمويل. من المعلوم أنه بعد تغيير سعر الصرف في 16/12/2020 تعين على المصرف المركزي إعادة تقييم أصوله وخصومه وبهذا سينتج فرق يمكن تسميته “فرق إعادة التقييم” وهو فرق كبير لأنه خفض قيمة الدينار بنسبة 70% أي ضرب قيمة النقد الأجنبي في 3.328 ويظهر هذا الفرق في جانب الخصوم من قائمة المركز المالي للمصرف، ويُعد من حقوق الملكية التي يمتلكها من يملك رأس مال المصرف وهو الشعب ممثلاً في سلطه التشريعية، وهذا الفرق سيكفي في تقديري لإطفاء الدين العام المسجل بدفاتر المصرف سواء كان 84 أو حتى 145 مليار دينار كما ذكر سابقاً في بعض التقديرات المحتملة. عليه فإن يمكن القول أن لدينا إمكانية لإطفاء الدين العام وجعله صفراً لكن العملية مازالت في تقديري تفتقد للجانب التشريعي، وأن الارتجال في مثل هذه الأمور قد يكون وخيم العواقب لأن فرق إعادة التقييم مهم في تعزيز المركز المالي للمصرف بل وقد نحتاجه مستقبلاً لغرض أهم إذا أردنا تعزيز وتقوية قيمة الدينار بعد الهبوط الذي أصابه بقرار 16/12/2020.
أشار كذلك إلى أن مسألة هل عملية إطفاء الدين العام يمكن أن تتم خلال شهر يمكن الإجابة بنعم إذا استصدر مجلس الإدارة القانون اللازم لذلك لأنه بصدور مثل هذا القانون يمكن مباشرة بعد ذلك إجراء وإتمام القيود المحاسبية.
وفي ختام الحديث قال أيضاً: السؤال الأخير هل ما ذكره المصرف بشأن إطفاء الدين العام يعني أن المصرف تنازل على الديون المتراكمة على الحكومة؟!! والإجابة عن ذلك أن مجلس إدارة المصرف، كما تقدم، لا يملك ذلك لكن السلطة التشريعية تملك مثالياً: السلطة التشريعية هي من تعتمد الميزانية مخولة بذلك الحكومة في صرف مبلغ لا يزيد عن قيمة محددة خلال سنة مالية، وهي من تخول الحكومة الاستدانة من المصرف المركزي أو من غيره إذا لزم الأمر بناءً على ما تتوخاه من أهداف عند تنفيذ الميزانية مكونة بذلك ديناً عاماً، وبذلك تكون السلطة التشريعية هي من تقرر سداد الدين العام سواء من إيرادات الدولة السنوية أو كما ذكر أعلاه من فرق إعادة التقييم الناجم عن تخفيض قيمة الدينار مع التحفظ المذكور في هذا الخصوص. عليه فإن إطفاء الدين العام ليس هبة ولا منحة مجانية تُعطى للحكومة أو يتم التنازل لها عليها، وإنما هي السلطة تشريعية التي يفترض أنها أقرت إنشاء الدين العام وهي من تقرر إطفاءه. هذا من الناحية المثالية لكن من الناحية الواقعية نعلم أن مجلس النواب (ومعه مجلس الدولة) ومنذ عام 2015 كان آخر همهم التفكير في الميزانية وأهدافها ومتابعة تنفيذها تحت رقابة مالية وإدارية فعالة، ولعل مثل هذه التحركات الأخيرة من المجلس الرئاسي، رغم صعوبة التكييف القانوني لها، قد حركت الماء الراكد وأيقظت الشعور لاعتماد ميزانية موحدة بالتشاور بين كل الأطراف تكون ذات أهداف واضحة وسياسات اقتصادية فعالة وتنفذ وفق نصوص قانون النظام المالي للدولة ولوائحه التنفيذية.