خبير نفطي يعلق على مسار الأمم المتحدة الاقتصادي لحل الأزمة الليبية بالقاهرة

436

كتب الخبير النفطي ” محمد أحمد” مقالا عن مسار الأمم المتحدة الاقتصادي لحل الأزمة الليبية في القاهرة

بعد انتهاء مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية أكدت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا أنها بصدد إطلاق عملية حوارية تعتمد على ثلاثة مسارات أساسية هي: المسار العسكري، المسار السياسي، المسار الاقتصادي.

وبينما يحوي تاريخ التسويات السياسية التي ساهمت فيها الأمم المتحدة مسارات سياسية بالأساس وعسكرية إلى حد ما، إلا أن موضوع المسار الاقتصادي قد يعتبر جديدا على سياسات الأمم المتحدة. التدخل الاقتصادي الوحيد في تاريخ الأمم المتحدة كان بعد قرار مجلس الأمن بالسماح للعراق بتصدير نفطه مقابل الحصول على الحاجيات الأساسية فيما اشتهر بعدها بصفقة “النفط مقابل الغذاء”.

ومن نافلة القول إن هذا المثل التاريخي كان سيئا إلى أبعد الحدود إلى حد أن الكثير وصفوه بوصمة عار على الهيئة الأممية بسبب تطبيقه بشكل فاسد تماما وغير خاضع للمساءلة والمحاسبة.

يختلف المسار السياسي في هذه التجربة بأنه يقوم على مشاركة الرأي لأصحاب البلد أنفسهم ربما لمحاولة تفادي التجربة السيئة “النفط مقابل الغذاء” والتي حقيقة لا يمكن لمجتمع إنساني يدعي الحضارة أن يقبل بها، وهي في رأيي بتجرد محاولة تصب في الاتجاه الصحيح بالرغم من المحاذير الكثيرة التي تكتنفها.

الاقتصاد لا يحتاج إلى الكثير من الجدل الآن وأتصور أنهم سيقومون بحوصلة نتائجهم سريعا إذا ما التزموا بالتحليل الاقتصادي البحت الذي يتجنب تماما التأثير السياسي. هناك قضايا شائكة اقتصادية تتعلق بممارسات غير سوية من إدارة البلد وهذه في ظني خارجة عن مجال التحليل الاقتصادي المحايد.

العناوين الرئيسية لأي مسار اقتصادي محدد للخروج من أزمة ليبيا الحالية يتمثل في المحاور الآتية:

المحور الأول: التركيز على إنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي في المدى القصير والمتوسط

وهنا أعني التركيز على تحسين وسائل إنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي والمكثفات ورفع الطاقة الإنتاجية عن طريق الاستثمار في الصيانة والمشاريع الإنتاجية بدون أي انحرافات ثانوية، ولعلي سأثير الكثير من الخلاف حين أقول إن الوقت اليوم ولفترة لن تقل عن خمس سنوات لا يتيح التفكير في أي توسعات في إضافة أي طاقة للتكرير. هناك عمل جدي يجب أن يتم في تحديد ما هي الإمكانيات الوطنية في تخصيص استثمارات في الصناعة النفطية ومدى الحاجة إلى استثمارات أجنبية واختبار نوعية هذه الاستثمارات ومصادرها.

شخصيا أعتبر هذا المحور يمثل القاطرة التي ستنتشل الاقتصاد الليبي من مشاكله الحالية لذا يجب أن يعمل عليها بكل دقة من حيث توفير شروط النجاح لها من ناحية الكفاءة والتصميم والعزيمة. في حال فشل هذا المحور في المهمة لا أظن أن أي عوامل أخرى ستخرج الاقتصاد الليبي من بحيرة الرمال المتحركة التي علق فيها.

المحور الثاني: تخفيض الانفاق الحكومي

هذا لا يحتاج تحليل اقتصادي فهو مشكلة ظاهرة للعيان منذ فترة طويلة وتتدحرج مثل كرة الثلج. السؤال هنا كيف يتم تخفيض هذا الإنفاق؟ مرة أخرى أقول أن هذه ليست قضية اقتصادية وسيكون من الظلم تكليف الاقتصاديين ببحثها. الاقتصاديون لا يوجد لديهم بلورة سحرية لكشف نيات السياسيين، في منح المرتبات الصرف على تكاليف الحكومة والمهام الخارجية والسفارات وغيرها. هذه مهمة تشريعية سياسية ومن ثم تنفيذية. ربما الاقتصاديون سيكون أمامهم تحدي واحد في هذا المحور وهو مصير الدعم الحكومي المقدم للغذاء والدواء والوقود. هنا سيختلف المشاركون في تحديد الألويات. أظن أن أي اقتصادي يحترم نفسه سيكون نصب عينيه التخفيف على المواطن الليبي وعدم زيادة تعقيد المشاكل الحياتية له. لاشك أن هناك مصالح اقتصادية في ليبيا تدفع في اتجاه الإلغاء الكامل للدعم أو ما يقال بتحويله إلى دعم نقدي بدلا من الدعم العيني، بافتراض أن الاقتصاد يملك الآليات المناسبة للتعديل الذي سيجنب المواطن تبعيات سياسة إلغاء دور الدعم العيني في الاقتصاد.

دعوني أقول إنني أتوقع مواجهة في اجتماعات اللجنة حول هذه النقطة بالذات بين فريقين في المسار الاقتصادي، ولكن سيبقى السؤال هل هذا الموضوع تختص به مسارات الأمم المتحدة المذكورة، في رأيي الشخصي لا، لذا أظنه سيبقى نقاشا بيزنطيا إن حدث في هذا اللقاء.

ما يهم الأمم المتحدة تحديدا هو توحيد قنوات الصرف الحكومي وإقناع المشاركين بآليات قد تكون تم تصميمها للوصول إلى هذا الهدف على غرار الترتيبات المالية التي حلت محل الموازنة العامة ويعمل بها منذ 2016. لا يمكنني تصور ما هي هذه الآلية خصوصا في ظل الفشل الكبير الذي أثبته حل الترتيبات المالية طوال السنوات الماضية.

مشكلتي هنا بالرغم من أني أود أن أكون محايدا في هذا المقال إلا إنني لا أستطيع تجنب التعليق هنا بإن ألاعيب لجنة الأمم المتحدة من السهل كشفها بالرغم محاولة إخفائها.

المحور الثالث: إصلاح السياسات النقدية وتوحيد سعر الصرف

هنا ندخل في متاهة سياسية اقتصادية نقدية مالية. لا أظن أن السادة الاقتصاديين يجب أن يناقشوا هذا المحور على الإطلاق. في اجتماع أممي سابق تم دعوة مسؤول الملف الليبي في البنك الدولي للإدلاء برأيه عن الحلول. وجه هذا المندوب كلامه لنا كأننا مجموعة من الفشلة الذين لا نفهم أساسيات الاقتصاد والنقد، حيث في تصوره إن الحلول واضحة ولكننا نلف وندور عليها بدون أن نطبقها.

مباشرة دعوني أقول نحن لن نخرج من هذه الأزمة طالما استمر: عدم وجود آلية بديلة لتطبيق سياسة نقدية كفؤة تعتمد على التحكم بسعر الفائدة، منع تدخل المصرف المركزي في تطبيق السياسات المالية، توحيد سعر الصرف (وليس تعويم سعر الصرف)، إصلاح السياسات التجارية، وأي مطالبة للاقتصاديين بمناقشة هذه الأمور سيكون واضحا بأنه تمرير لسياسات قررت مسبقا للتأثير على المسار السياسي.

مرة أخرى وللأسف اللعبة أكثر من مكشوفة، هي تطبيق حقيقي لنموذج ورطة السجينان في نظرية اللعبة المستمدة من الممارسات الأمنية في التحقيقات وذلك بفصل أي متهمين عن جريمة واحدة عن بعضهما ومواجهتهم في نهاية التحقيق باعتراف متبادل بارتكاب الآخر الفعل.

الحل في رأيي أن يطالب الاقتصاديون بأن يدمجوا فعاليتهم في المسار السياسي ليصبح المسار السياسي والاقتصادي هذا إذا ما أردنا الخروج من الدوامة.