هل تصل ليبيا إلى مصاف الدول المتقدمة يوماً أم انعدم الأمل ؟

524

يعيش الناس في ليبيا حالةً من فقدان الأمل تتجدد كل يوم مع تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد ، وتسيطر هذه الحالة على أحاديثهم وعلى تصرفاتهم ونفسيتهم ومزاجهم ، بل أصبحت  لسان حالهم في كل تجمع في شارع ما أو مقهى ما ، تتراشق الأحاديث لتظهر جملة “ليبيا مش حيصير منها ” واضحة وجلية ومسيطرة على محور الحديث  ، جملةٌ خلقتها الحروب والأزمات وزرعتها في عقلية كل مواطن ليبي مهما كانت خبرته ومهما وصلت درجة التفاؤل الذي يملكه ، فاستمرار الأزمات أصٌل هذه الفكرة وزرعها في عقول الليبيين الخصبة لأي فكرة سلبية مع تأزم الأوضاع .

ولكن الناظر والمتأمل إلى حال بعض الدول الغربية ، وكيف تحولت خلال سنوات قليلة إلى دول متقدمة متطورة ، سيعلم أن تقدم ليبيا ليس شيئا مستحيلاً أو حلماً صعب المنال ، حيث مرت العديد من الدول بحروب وانقسامات طالت ولكنها الأن تعيش حالة تقدم أوصلتها إلى أكبر الدول وأكثرها تقدماً وعلواً ، ولعل تأخرنا فكرياً هوا ما ساهم أيضاً في تأخرنا دنيوياً وفي جميع مجالات الحياة ، كما أن الحروب خلقت المجال للأطماع فبات من السهل على العديد من الناس الوصول إلى مقعد سلطة ونهب أموال ونشر فساد .

تركيا والقفز إلى العالمية : 

إن معظم الناظرين إلي ما وصلت إليه تركيا اليوم لا يعلمون أنه وقبل سنوات كان الدولار الواحد يعادل مليون ونصف ليرة تركية ، لتتغير جدرياً خلال فترة ليست بالطويلة إلى 2.5 ليرة للدولار الواحد ، يمكننا أن نقول أن هذه القفزة جاءت نتيجة سياسات انتهجها الاقتصاد التركي ، ولكن المنبع الأصيل لهذه القفزة هي الرغبة في التغيير والتطوير الرغبة في الرفع من المعاناة وفي الغاء هذا الوضع المزري الذي تمر به البلد  .

في عام 1999 مرت تركيا بأزمة مالية شديدة عصفت بها ، واشتدت هذه الأزمة وتصاعدت بعد القرض الذي قدم لها من صندوق النقد الدولي عام 2001 ، حيث أدى ذلك إلى  ارتفاع حجم المديونية الخارجية، وارتفاع العجز في الميزانية واختلال عمل البنوك التركية وإغلاق الآلاف من الشركات التجارية، وانخفاض استثماراتها، وارتفعت البطالة فيها إلى مستويات مرعبة بسبب إغلاق الشركات والمصانع .

وحسب إحصاءات برنامج الاقتصاد التركي لعام 2013 ، إرتفع دخل المواطن في تركيا في سنة واحدة أي في عام 2002 إلى أكثر من 17 ألف دولار سنوياً بعد أن كان لا يتجاوز 3500 دولار ووصلت صادراتها من 36 مليار دولار أمريكي واستمرت في الارتفاع إلى أن وصلت 140 مليار دولار عام 2013، ومن المتوقع لها أن تصل إلى 500 مليار دولار بحلول عام 2023  .

والسبب في هذا التطور يرجع إلى التشجيع الحكومي للاستثمار، وقيام الحكومة بتسهيل الإجراءات وإزالة الحواجز البيروقراطية، وفتح الأبواب أمام المستثمرين المحليين والأجانب، نهض القطاع الخاص وصار له دوره الرديف للقطاع الحكومي في التنمية، وقامت الحكومة بعمليات الرقابة والتشجيع ووضع قواعد ومعايير شفافة وعادلة، وخلق جو المنافسة المتساوية وهذا من أهم عوامل نجاح الاقتصاد التركي.

ونتيجة لتشجيع القطاع الخاص والتشجيع على الاستثمار انخفض عجز عجز الميزانية الكبير من 12% من الدخل القومي حتى وصلت في العام الماضي إلى صفر % ،والسبب أهو الاسترتيجيات التي وضعها خبراء الاقتصاد وعملو على السير على وتطبيقها وتطويرها من وقت لأخر   من أجل خفض نسبة العجز ، وتم إعلان ذلك وإعلان السياسات المتبعة لتحقيق هذا الهدف ، وكانالالتزام بنظام الميزانية المعلن كان سببا أساسيا في مكافحة التضخم ، وتم تحقيق ما كان يعتبر شبه مستحيل بخفض نسب التضخم من 55% إلى أقل من 10% ، وهذا يعتبر نجاحا باهرا، ومنافسا للدول المتقدمة.

وجعلت تركيا التعليم في المقام الأول وخصصت ميزانيات عملاقة له ، بإعتباره هو السبيل لتطوير الاجيال والمجتمع ، حيث بلغ إنتاج تركيا عام 2012 :22668 بحثا علميا منشوراً ، وهو رقم يزيد عن ما أنتجته الدول العربية مجتمعة. ( راجع منشورات منظمة المجتمع العلمي العربي) ويوجد في تركيا 70 ألف باحث يعملون بدوام كلي . .

سنغافورا من أصغر الدول الأسيوية إلى أكبرها أقتصادياً :

قبل حوالي خمسين سنة من اليوم كانت سنغافورا من أكثر الدول جهلاً وتخلفاً في أسيا ، وكانت البطالة السمة الأولى والسائدة للشباب وغيرهم وكانت معدلاتها مخيفة جدا ، أما عن الفقر فكان مستشري كالمرض العضال في الغالبية العظمى من الشعب ، إذ “كان يعيش 70% من شعبها في مناطق مزدحمة ضيقة، وبأوضاع غاية في السوء، وكان ثلث شعبها يفترشون الأرض، في أحياء فقيرة، على أطراف المدينة. بلغ معدل البطالة 14%، وكان الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد أقل من 320 دولار أمريكي، وكان نصف السكان من الأميين”.

أما اليوم فقد صنف الاقتصاد السنغافوري على أنه من أسرع الاقتصاديات نمواً في العالم ، حيث تطور في نقلة نوعية ، و أصبح نمودجاً يحتذى به حول العالم ،  حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد بنسبة لا كبيرة جداً ويمكننا أن نطلع عليها وصف العملاقة ؛ اذ وصل إلى 60 ألف دولار أمريكي، مما يجعلها سادس أكبر معدل للناتج المحلي للفرد في العالم ، وهبطت معدلات البطالة إلى 2% فقط بعد أن فاقت ال14 % ،  حاولت سنغافورا في بداية الأزمة الاستعانة بالمجتمع الدولي والاقتراض ولكن نداءاتها لم تلقى استجابة واضطرت إلى الوقوف لوحدها ، والتفكير في طريقة مثلى للخروج من الأزمة ، ولم تكن أمامها إلا الصناعة لتطويرها والاعتماد عليها وكان الحل الأكثر جدوى لمشاكل الاقتصاد السنغافوري وللبطالة هو الشروع في تنفيذ برنامج شامل للتصنيع، مع التركيز على الصناعات كثيفة العمالة .

ولكن واجهت سنغافورا مشكلة كبيرة تتمثل في غياب الخبرة في هذا المجال الصناعي واضطرت إلى البحث عن معين من خارج حدودها لذا قامت بإنشاء مجلس عرف بإسم مجلس التنمية الاقتصادية ، ليتولى جذب المستثمرين ، كما استخدمت الحكومة اسلوب الصرامة في حكم البلاد حيث قامت باعدام أي شخص تتبث عليه تهمة التجارة بالمخدرات لذا اختفى تجار المخدرات تباعاً ، وسجنت أي شخص يهدد وحدتها بدون حتى اجراءات قانونية ولكنها بالصرامة استطاعت ضبط زمام الامور ، وبهذا أصبحت دولة جذابة للمستثمرين وبحلول عام 1972 أي بعد سبع سنوات فقط كان كلً من الولايات المتحدة واليابان من أكبر المستثمرين في سنغافورة؛ نتيجة للمناخ الثابت، والمستقر، في سنغافورة، والظروف المواتية للاستثمار ، وفي عام 1990 كانت تقوم بتصنيع الشرائح الإلكترونية الدقيقة، وتقدم الخدمات «اللوجستية»، وتجري البحوث في مجال «التكنولوجيا الحيوية» و«الأدوية» و«تصميم الدوائر المتكاملة» وكذلك «هندسة الطيران» .

ونتيجة للمجلس الذي أنشئ وللأسلوب الصارم في الحكم استطاعت سنغافورا النهوض من دولة لا تملك أي شيء والفقر سمة غالبة على شعبها إلى أكبر الدول الصناعية .

واليوم تعمل سنغافورا على المحافظة والتطوير لما وصلت إليه حيث تتبنى سياسة التطوير والتقويم حيث هناك إعادة تقييم باستمرار للاستراتيجيات الاقتصادية على المدى الطويل في سنغافورة، وسياسات يمكنها التكيف بسرعة مع التغيرات والتحديات العالمية.

التجربة اليابانية : 

أما اليابان فقد مرت بتجربة بائسة وتأثرت بالحرب العالمية التانية بشكل كبير جدا لكن كيف غيرت اليابان وجهها البائس الكئيب في حقبة ما بعد الحرب التي قتل خلالها مليونا مواطن وحقبة ما بعد إلقاء أول قنبلتين نوويتين عليها والتي أدت إلى هلاك أكثر من 300 ألف ياباني؟… كيف استطاعت هذه البلاد أن تنهض من كبوتها وتقود التغيير والنمو وتنجح فيهما وهي المعروفة بفقرها الشديد في المواد الخام وحاجتها الملحة للطاقة .

حيث وصل الاقتصاد الياباني في غضون سنوات الى العالمية وتخطى أزمة الحرب و اكتسبت شركاتها شهرة ومكانة عالية في السوق العالمي مثل (باناسونيك، تويوتا، سوني، فوجي فيلم وغيرها)، كما عملت اليابان على استيراد المواد الخام و تحويلها إلى عدة منتجات يتم تسويقها محلياً وخارجياً.

ويحتل الناتج القومي الإجمالي لليابان اليوم المرتبة الثالثة عالمياً ، والسبب الرئيسي لهذا التطور والتحول العملاق يعود الى سعي اليابان توظيف كافة الموارد المتاحة والسعي إلى اغتنام الفرص لتحقيق التنمية المستدامة في كافّة قطاعات الدولة.
ويتمثل السبب الثاني في قوّة النظام التعليميّ الفعّال القائم على التفكير النقدي والتحليل والربط بين الأمور، والبعيد كلّ البعد عن التلقين والأساليب السرديّة التي تحدّ من الإبداع والابتكار، كان ذلك من أهم الأسباب التي تقف وراء ذلك التطور.
واليوم تعتبر اليابان قوة اقتصادية عظمى ، رغم أنها كانت مدينة السمة الرئيسية لها الحرب والدماء والموت !

 

لذا لا ننكر أن ليبيا اليوم في موقف صعب وتمر بأزمات كبيرة ، ولكن هناك أمل بالنهوض هناك أمل في التغيير كما تطورت تركيا واليابان وسنغافورا وماليزيا وغيرها من لا شيء إلى دول كبرى وعظيمة ، تستطيع ليبيا السير على نفس النهج ، لكن هذا يستدعي منا جميعا الوقوف صغاراً وكبارا خبراء وعلماء والمساهمة في التطوير والتغيير لنخلق معاً دولةً جديدة …