“محمد أبو سنينة” يكتب: دعوة لإنقاذ الاقتصاد الليبي

591

كتب: الخبير الاقتصادي “محمد بوسنينة”

مند أواخر عام 2017 انطلقت دعوة للإصلاح الاقتصادي في ليبيا، وأعد لذلك برنامجا متكاملا، عرف ببرنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي، وكان هذا البرنامج ثمرة لجهد خبراء ومختصين، وبدعم مؤسساتي وجهد مشترك بينها، تضمن حزمة من السياسات الاقتصادية ( النقدية والمالية والتجارية )، ولعل أهم ملامح هذا البرنامج وعلى رأس أولوياته؛ تصحيح سعر صرف الدينار الليبي ومعالج دعم المحروقات، بالإضافة إلى إصلاح المالية العامة للدولة.

هذا البرنامج لم يجد طريقه للتطبيق، وفقًا للأهداف المرجوة والسياسات الاقتصادية التي تظمنها والإطار الزمني المحدد له، بسب الانقسام السياسى والمؤسساتي، والأوضاع الأمنية المتردية ، ولعل أهم عائق واجه تنفيد البرنامج هو انقسام مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي، واضطرار المصرف المركزي الموازي لطباعة العملة لتمويل الحكومة الموءقتة وتوفير السيولة، ومن تم غاب دور السلطة النقدية الواحدة وتعطلت مهامها وإدواتها، وتعذر تنفيد البرنامج في ظل وجود حكومتين في دولة واحدة وعدم اهتمام السلطة التشريعية بالبرنامج

وقد نجم عن ذلك استمرار الأوضاع المتردية للاقتصاد الوطني وارتفاع سعر صرف النقد الأجنبي في السوق الموازية ليصل إلى مستويات غير مسبوقة، مدعومًا بإجراءات الرقابة على الصرف الأجنبي، بالإضافة إلى عدم استقرار معدلات استخراج وتصدير النفط، وظهور أزمة سيولة غير مسبوقة في القطاع المصرفي الليبي، وبالرغم من ذلك ظل الإنفاق العام يتزايد من سنة لأخرى في إطار ما يعرف بالترتيبات المالية التي تفاقم في ظلها الدين العام الذى ساهمت فيه حكومتي الوفاق والمؤقتة ، وكان كل ذلك بإجراءات مخالفة لما تضمنه برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي وقانون الدين العام.

في عام 2018 لجأ المجلس الرئاسى ، بالتنسيق مع مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، إلى فرض رسم على مبيعات النقد الأجنبي بواقع 183٪؜، خفض إلى 163% كسياسة بديلة لتعديل سعر الصرف الرسمي التي أوصى بها برنامج الإصلاح الاقتصادي، هذه السياسة لم تكن مستهدفة أصلا في برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي المنوه عنه.

وبالرغم من ذلك سميت هذه السياسة إصلاحا اقتصاديا تكلفاً، بل تم اختزال الإصلاح الاقتصادي بأكمله في هذه السياسة، بالرغم من أنها لم تكن من بين أدواته الموصى بها، حيت لم تتجاوز الإجراءات المتخذة فرض رسم على النقد الأجنبي، وكان من المفترض أن يعقبها تعديل سعر الصرف الرسمي للدينار، غير أن سعر الصرف الرسمي للدولار بقى عند 1.4 دينار، واستمر برنامج دعم الوقود على ما هو عليه وزادت فاتورة المرتبات، ضمن الباب الأول من الميزانية العامة، واستمر انقسام المؤسسا ت السيادية، وكنتيجة لذلك وعوضا عن توحيد سعر الصرف أصبح لدينا ثلاثة أسعار للصرف الأجنبي

ونتيجة لهذه السياسة وبسبب توقف تصدير النفط واستمرار حالة الاحتراب والانقسام السياسى فقد تأثرت اساسات الاقتصاد الكلى سلبا، وتعمقت الأزمة التي يمر بها الاقتصاد الوطني، فقد زاد بند المرتبات بالترتيبات المالية من 23.6 مليار في عام 2018 إلى 24.5 مليار دينار بنهاية عام 2019وانخفض إجمالي الإيرادات العامة من 35.9 مليار دينار إلى 31.0 مليار دينار وزاد إجمالي الإنفاق العام من 40.5 مليار دينار إلى 45.8 مليار دينار مضاف إليها 11.0 مليار دينار لدى الحكومة الموقتة، وبذلك زاد رصيد الدين العام ليصل إلى 105.0 مليار دينار.

وارتفع عجز الموازنة العامة، لدى حكومة الوفاق، نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالى الحقيقي لتصبح 28.16% في عام 2019 ، وكانت هذه النسبة في حدود 10% في عام 2018 باستبعاد حصيلة رسوم بيع النقد الأجنبي، وزاد إجمالى مصروفات النقد الأجنبي من 19.1 مليار دولار بنهاية عام 2018 إلى 24.6 مليار دولار بنهاية عام 2019 بالرغم من الرسم المفروض على مبيعات النقد الأجنبي، وقد تزامنت الزيادة في المصروفات بالنقد الأجنبي بانخفاض الإيرادات النفطية من 24.5 مليار دولار في عام 2018 الى 22.5 مليار دولار في نهاية عام 2019 وانتهت السنة المالية بعجز في ميزان المدفوعات بحوالي 2.1 مليار دولار .

وبالرغم من أن سياسة فرض رسم على مبيعات النقد الأجنبي قد اتبعتها بعض الدول الأخرى، بهدف تقليص الفرق بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء وإخراج المضاربين في السوق السوداء وتحييدهم، كخطوة على الطريق وصولا لسعر صرف موحد، إلا أنه تم تسخير هذه السياسة في ليبيا لتمويل الموازنة العامة للدولة، واعتمدت عليها حكومة الوفاق في تمويل العجز في إيراداتها، وسداد جزء بسيط من الدين العام، وصارت الحكومة تتحكم في أمر تعديلها، وبذلك فقد المصرف المركزي زمام المبادرة لمعالجة سعر الصرف، وصارت إجراءته رهينة بموافقة الحكومة، بالمخالفة لأفضل الممارسات.

والنتيجة هي تورط الاقتصاد الوطني في هذا الرسم، فلا تحققت أهداف هذه السياسة في معالجة موضوع سعر الصرف، والدليل عودة السعر في السوق الموازية للارتفاع من جديد، بل أصبح هناك ثلاثة أسعار لصرف النقد الأجنبي : سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف المحمل بالرسم المفروض وسعر الصرف في السوق السوداء، ولم يختفي عجز الموازنة العامة، والدليل إقرار عجز فى الموازنة العامة خلال عام 2019، وهو العجز الأكبر مند أزمة الهلال النفطي عامي 2015- 2016 ، والتي سيقوم المصرف المركزي بتمويلها بمبلغ يتجاوز 20 مليار دينار . وبذلك أصبح الاقتصاد الوطني يعاني من ما يعرف بالفجوتين ( عجز الميزانية العامة وعجز ميزان المدفوعات ) وعاد شبح التضخم يخيم على الاقتصاد من جديد، و صار الرجوع على الاحتياطيات امراً حتميا نتيجة لتوقف تصدير النفط وانحسار إيراداته.

ولعل من أخطر تبعات فرض الرسم ما أحدثه من تشوه جديد في الاقتصاد وهو تطبيق سعر صرف مضاف إليه رسم على معاملات الأفراد والقطاع الخاص ( الاعتمادات المستندية ، والحوالات المباشرة ، وما يعرف بمخصصات أرباب الأسر ) وتطبيق سعر الصرف الرسمي على العمليات الخارجية للحكومة، وما صاحبه من استثناءات، وشبهة الفساد، و صعوبات في التمييز بين ماهو خاص وما هو عام

ويشكل هذا الإجراء، في ذات الوقت، قيدا على عمليات الحساب الجاري، بالمخالفة لاتفاقية صندوق النقد الدولي، وقد أدًى توقف استخراج النفط وتدهور صادراته وأسعاره وتبعات جائحة كورونا المثمتلة في إجراءات الإغلاق التي طالت كافة أوجه النشاط الاقتصادي، وتوقف منظومة الاستيراد خلال الأشهر الأولى من عام 2020 ، إلى تراجع معدل نمو القطاع الاقتصادي غير النفطي وتدني مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، مما سينعكس سلبا على معدل النمو الاقتصادي خلال العام 2020 و يدفع الاقتصاد الليبي نحو وضع الركود التضخمي.

وبالرغم من المشاكل التي ترتبت على فرض رسم على مبيعات النقد الأجنبي ، فقد تعالت الأصوات التي تنادي بزيادة الرسم على مبيعات النقد الأجنبي مرة أخرى اعتقادا منهم بإن ذلك سيحد من الطلب على النقد الأجنبي او يعالج العجز في ميزان المدفوعات في اقتصاد غير إنتاجي ومكشوف على العالم الخارجي.

وكان الأجدى العمل على استئناف تصدير النفط وتصحيح سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي، ومعالجة دعم المحروقات وترشيد الإنفاق العام وإصلاح المالية العامة للدولة بهدف معالجة العجز في ميزان المدفوعات، وفي ذات الوقت تنمية إيرادات الخزانة العامة ومعالجة عجز الميزانية العامة.

وبذلك تعتبر كل الإجراءات التي اتخذت خلال عامي 2018 و 2019 قد فقدت جدواها، ولم يعد الرسم المفروض على بيع النقد الأجنبي يحقق الأهداف المرجوة منه، بل إنها زادات الأمور الاقتصادية تعقيدا، وأصبح الاقتصاد الليبي في حاجة لبرنامج انقاد اقتصادي عوضًا عن مجرد برنامج للإصلاح الاقتصادي وذلك للتخفيف من حدة الركود التضخمي المرتقب ولتفادي أمران : الأول ؛ استنزاف احتياطيات الدولة من النقد الأجنبي لدى المصرف المركزي، والثاني ؛ توقف الاستدامة المالية للدولة.

ويمكن تلخيص هذا البرنامج الذي ندعو له بصورة عاجلة ، في الاتي :

1_توحيد مصرف ليبيا المركزي وتكليف مجلس إدارة جديد للمصرف ليعود سلطة نقدية واحدة تتولى مسوؤلية تعديل سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي بدمج الرسم المفروض على مبيعات النقد الأجنبي في السعر الرسمي، بعد مراجعته، على غرار المعالجة التي تمت بالنسبة لضريبة النهر الصناعي التي كانت مفروضة على مبيعات النقد الأجنبي عام 2001 ، لكي يكون سعرا توازنيا موحدا لكافة الأغراض ولكافة القطاعات العامة والخاصة، والتحكم في إصدار النقد الليبي وإدارة السيولة في الاقتصاد الوطني .

2_ استئناف استخراج وتصدير النفط الخام والغاز والعمل على رفع معدلاته إلى اقصى حد ممكن .

3_ توحيد الباب الأول من الموازنة العامة للدولة، وصولا لتوحيد كامل بنود الموازنة، وفقا لمنظومة تضم كافة من يتقاضون مرتباتهم من الخزانة العامة في مختلف المناطق وباستخدام الرقم الوطني.

4_ وضع واقرار نظام للاستفادة العادلة من الموارد السيادية العامة في ليبيا، من خلال اقرار وتطبيق نظام للحكم المحلي يقسم الدولة الى عدد من المحافظات والبلديات، بحيت يتخلص من مساوى النظام المركزي في إدارة وتقديم الخدمات، ويجيز استغلال الموارد المحلية ( رسوم وعمولات ) توريد وصرف لصالح المحليات، ويحقق التنمية المكانية المتوازنة باستعمال فايض الإيرادات النفطية وعوائد توظيفها.

5_ معالجة دعم المحروقات ، بحيت يلغى الدعم على مراحل ضمن إطار زمني محدد، وتعويض المستهلك الليبي نقدا ( دعم المستهلك بدل دعم السلعة ) . وتشمل المعالجة دعم المحروقات، للشركة العامة للكهرباء.

6_ البدء في تنفيد صرف علاوة الأبناء والزوجة المقررة بموجب القانون رقم 6 لسنة 2013 بشان علاوة العائلة والقانون رقم 27 لسنة 2013 بشان منحة الزوجة والأولاد، الصادرة عن الموتمر الوطني العام في السابق، على مراحل ومن خلال إطار زمني محدد، برصد مخصص سنوي ضمن الموازنة العامة للدولة وإلى حين سداد كامل المبلغ المستحق .

7_حصر و تقنين الدين العام المحلى، في شكل سندات خزانة بفترات استحقاق محددة، وبيعها للقطاع المصرفي، واستحداث أدوات تمويل جديدة مثل الصكوك الاسلامية .

8_إعادة الثقة للقطاع المصرفي وتفعيل دوره في النشاط الاقتصادي، وتصحيح أوضاع مؤسساته وحمايتها وفقا لأحكام قانون المصارف.

9_ منح القطاع الخاص الصناعي تسهيلات في شكل إعفاء موءقت من الرسوم الجمركية على المواد الخام المستوردة وتاجيل اقساط الديون والالتزامات المستحقة عليه لصالح القطاع المصرفي إن وجدت.

10_ تطوير شبكة للحماية الاجتماعية social safety net للحد من الفقر وحماية الفئات الهشة والعاطلين عن العمل ممن يبحتون عن العمل، هذا في المدى القصير أما على المدى المتوسط والطويل فإن الاقتصاد الليبي في حاجة لإعادة هيكلة بغية تنويع مصادر الدخل والتخلص من هيمنة النفط على الاقتصاد.