الترهوني يكتب : أهم الآليات التي تضمنتها استراتيجيات التعليم في رواندا

290

كتب “عبد الله ونيس الترهوني” عن السياسات التي استخدمتها دولة رواندا في التعليم .

أشاد القاصي والداني بما تشهده رواندا من نهضة عمرانية مقرونة بنهضة بشرية ووعي مجتمعي كبير، حيث اصبحت العاصمة كيغالي من انظف العوتصم في العالم، وتبقى كلمة السر في كل هذا هي التعليم، ولكن دون أن ننكر وجود إرادة وطنية حقيقية عملت وتعمل على تحقيق تنمية وطنية شاملة، وبدوري سأحاول في قادم الاسطر وبشئ من التفصيل عرض بعض السياسات والآليات التي اتخذنتها الحكومات الرواندية المتعاقبة ضمن استراتيجية وطنية للنهوض بالتعليم كأساس للتنمية.

لقد ورد في تقرير جودة التعليم للعالم لسنة 2014 والصادر عن منظمة اليونسكو أن رواندا هي من أفضل 3 دول في تجربة النهوض بالتعليم ، وهي لم تقفز إلى هذه المرتبة بين عشية وضحاها ، فكما يعلم الجميع فقد عانت رواندا من حرب أهلية طاحنة تبعتها إبادة جماعية قُتل فيها أكثر من مليون شخص، وتدمرت معها كامل مرافق الدولة وبنيتها الأساسية تقريباً، فلم تعد هناك مستشفيات ولا كهرباء ولا مدارس (عدا القليل منها)، بل وأصبح المعلمون أنفسهم ما بين مقتول ومسجون وفارٍ ناجٍ بحياته، ومع كل هذا فقد نهضت البلد من تحت الرماد بالتعليم ، نعم لقد نهضت رواندا بالتعليم وليس بالموارد، ولسائلٍ أن يسأل : ماهي الاستراتيجيات والسياسات والاليات التي اتبعتها رواندا في مجال التعليم حتى نهضت به بهذه السرعة؟

وللإجابة على هذا السؤال الهام وقبل الخوض في التفاصيل دعونا نُعرج في عُجالة على تعريف مفردتي الاستراتيجيات والسياسات واللتان يجهلهما الكثير منّا، فالإستراتيجية هي الخط العام الذي تسير عليه المنظمة أو المؤسسة أو الشركة أو الوزارة لتحقيق الأهداف والغايات الكبيرة لها، وهذا الخط العام لايتغير بسهولة لانه غير مرن، وتكون عادةً في مدى زمنى بعيد بل ويتجاوز العشرون عاماً، أما السياسة وجمعها سياسات فنعني بها اتجاهات وحدود منهجية العمل، وتكون ثابتة وتتسم بهامش ضيق من المرونة، وترجع إليها المنظمات والمؤسسات والشركات والوزارات لتنفيذ استراتيجياتها و اتجاهاتها، أي أنها دليل إرشادي عند اتخاذ القرارات.

مما تقدم يمكننا الآن الاجابة وبكل بساطة عن السؤال المطروح، والتي اختصرتها لكم في ماهو آتِ، وتبعاً للأولوية التي اتبعتها الحكومات الرواندية المتعاقبة (أي وفق الترتيب الزمني):-

إعادة تأهيل المعلم:
مثلهم مثل باقي الشعوب، كان الروانديون قبل الحرب الأهلية شعباً يعطي للمعلم احترامه ويحظى المعلم فيه بمكانة خاصة ؛ حتى أنّه خلال الحرب كان الناس يختبئون في الكنائس والمدارس باعتبارها أماكن مقدسة ولا يجوز المساس بها، بالرغم من أن هذه الأماكن هي الأخرى لم تسلم من الانتهاك، وأن 75% من المدرسين إما قُتلوا أو سُجنوا أو فروا خارج البلاد ، ومع عودة الحياة لطبيعتها وضعت أول حكومة رواندية بعد الحرب الاهلية برنامجاً لإعادة توطين المواطنين الذين فروا خارج البلاد أولاً، ثم أعقبه برنامج إعادة تأهيلهم، مع إعطاء الاولوية للمدرسين، بل أنهم حظو بنوع خاص من التأهيل والذي شمل التدريب المكثف وتنظيم ورش العمل. وفي هذا الصدد يقول نائب مدير مجلس التعليم برواندا «عمانوئيل موفوني» في مقال نشر عام 2010 بموقع …The News Times أنه لابديل عن المعلم المؤهل بامتياز، ولأجل هذا تُقام العديد من ورش العمل والدورات التدريبية التي تًنتج معلمين قادرين على تقديم تعليم يواكب العصر، ويُلبي احتياجات سوق العمل، وينهض بالبلاد اقتصادياً

تعليم يحارب العنصرية:
قبل الحرب الاهلية بزمن بعيد كانت رواندا بلداً مختلفًا تماماً، ففي عام 1960 وعلى الرغم من أن التعليم في البلد كان متقدماً ويؤهل الطلاب للمعرفة والعمل، لكنه في المقابل كان يُرسخ للعنصرية الشديدة التي أشعلها الاستعمار الفرنسي بين قبائل الهوتو والتوتسي، وقد حظي أبناء قبيلة التوتسي بأفضل أنواع التعليم والذي يؤهلهم لتولي المناصب القيادية في البلاد، بينما أبناء «الهوتو» منعزلون وحدهم في مدارس فقيرة يتخرجون منها ليعملوا أعمال عضلية ومُجهدة، وأن كثيراً منهم لا يملك حتى قوت يومه، فما بالك بثمن الكتب أو الزي المدرسي، فأدى هذا التفاوت إلى ترسيخ العنصرية مما عجل في الدفع برواندا لأتون تلك الحرب المدمرة، كما أن التاريخ نفسه يُزيف في المدارس ليُرسخ لعقلية الانتماء للقبيلة وليس للوطن، في وقتنا الحاضر أصبح مجرد التلفظ بكلمة عنصرية جريمة يعاقب عليها القانون في رواندا، بل أن الدولة حذفت مادة التاريخ كلياً من المناهج المدرسية، حيث لم تعد الدولة طرفاً في تزييف التاريخ وإذكاء الفتنة القبلية.

التعليم المجاني:
لم يكن للعائلات الرواندية أن تتحمل تكاليف التعليم الباهظة أصلاً وبالأخص بعد إنتهاء الحرب الاهلية، فحتى قبل الحرب الأهلية كان أغلب الشعب فقراء وإن كانوا يتطلعون إلى تعليم جيد ودون تفرقة، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بدأت المدارس الحكومية في كامل رواندا اتباع سياسة التعليم المجاني؛ متضمناً توحيد الزي المدرسي وذلك ضمن استراتيجية وطنية طموحة في المراحل الأساسية للتعليم بشقيّه الابتدائي والمتوسط، ولمدة ست سنوات دراسية للمرحلة الابتدائية وثلاث سنوات للمرحلة المتوسطة، والحكومة تدرس الآن مجانية التعليم للمرحلتين الثانوية والجامعية.

مكافحة التسرب من التعليم:
في خطوة صحيحة ومدروسة قامت رواندا عقب إنتهاء الحرب مباشرةً بإعادة بناء الأطفال نفسياً وفكرياً وعلمياً وذلك قبل شروعها في العمران، وكان لابد للمدارس أن تعود وتفتح أبوابها مرة أخرى بعد انتهاء الحرب الاهلية، ولم تكن إعادة الأطفال للمدارس بالمهمة السهلة أو اليسيرة خاصةً أن أغلب هؤلاء الأطفال كانوا إما أيتاماً أو عاملين بالأجر اليومي في الزراعة أو أي اعمال أو حرف أخرى لإعالة أسرهم الفقيرة، وقد تمت هذه الخطوة في خطة مدتها خمس سنوات لمحاربة ظاهرة التسرب من التعليم، فوصل متوسط الطلاب المنتظمين في التعليم إلى 85%، فيما أكدت منظمة اليونسكو أن رواندا صارت من أعلى الدول الأفريقية انتظاماً في التعليم الاساسي؛ وبشئ من التفصيل فقد بلغت نسبة الأطفال المنتظمين في المرحلة الابتدائية وحدها نسبة 97%، وفي التعليم المتوسط 73%، وفي المقابل غفلت الحكومة الرواندية عن شئ غاية في الاهمية ولم تعطه حقه ألا وهو تعليم شريحة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث أنّهم لا زالو مهمشين ولا يتلقون اهتماماً كافياً.

التكنولوجيا:
عندما تنظر إلى أحد الفصول في مدارس رواندا، ربّما تبدو لك للوهلة الأولى أنها فصولاً تقليدية فقيرة ولكن في حقيقة الأمر أن التعليم في رواندا يتجه حثيثاً للاعتماد الكلي على التكنولوجيا وذلك بعد أن عقدت حكومة رواندا شراكة مع شركة «Microsoft» لمحو الأمية الرقمية في البلاد، وفي حدثٍ مماثل ويبدو غريباً للوهلة الأولى هو تبني الحكومة الرواندية وقبل أزيد من سبع سنوات من الآن لنظام « ICT 4E»؛ وهي إختصاراً لـ«تكنولوجيا المعلومات والاتصال من أجل التعليم»، وهو نظام يستبدل وسائل التعليم والكتب التقليدية بمنصات إلكترونية يُتابع من خلالها الدارسون دروسهم online بكل سهولة ويسر، ثم أطلقت رواندا حملة لإشراك أصحاب المصلحة في التحول التعليمي لتعظيم مخرجات التعليم والتعلم خلال شهر سبتمبر 2019

اللغة:
قامت الحكومة الرواندية بخطوة صغيرة في الشكل ولكنها كبيرة جداً في المضمون وهي إستبدالها للغة الفرنسية بالإنجليزية وتدريجياً في المناهج الدراسية بالبلاد، وإذا مانجحت في تنفيذ هذا التوجه وبنسبة 100% فسوف تكون المدارس والجامعات الرواندية مصدر جذب للطلاب من جميع أنحاء العالم.

في الختام، إن التخطيط السليم المقرون بالإرادة الصحيحة والنية السليمة سيؤدي بكل تأكيد إلى تحقيق الاهداف ورقي الأمم، وبالطبع النهوض بالانسان، في حين يبقى رأس المال البشري هو أغلى ماتمتلكه الأمم في كل الأزمان والعصور.