“الترهوني” يكتب: دولة ليبيا واقتصادها ومستقبل النفط فيها!

1٬619

كتب الدكتور عبدالله ونيس الترهوني “دولة ليبيا وإقتصادها ومستقبل النفط فيها”!

إن صراع البشر على الأرض ومافي باطنها هو صراع قديم بقدم الزمان، ومع توالي الثورات الصناعية إزدادت أهمية الطاقة بل وصارت هي أحد مفاتيح النهضة، فتحول الانسان من الاعتماد على البخار في الثورة الصناعية الأولى إلى الفحم في الثورة الصناعية الثانية ثم النفط في الثورتين الثالثة والرابعة، وفي الحقيقة ازدادت أهمية النفط بعد الحرب العالمية الثانية، وأخذت الشركات العالمية تتسابق على مناطق وجوده واستغلاله، وبمرور الوقت سيطرت على انتاجه الاخوات السبع المعروفة.

يُشكل النفط ثورة الطاقة السابعة عبر التاريخ، وبالمناسبة لم تستحوذ أيمادة طبيعية عبر التاريخ على أهمية النفط التجارية والاقتصادية، وتحول النفط إلى سلعة استراتيجية تتحكم في مصير العالم واقتصاداته، ولقد مرت البشرية قبل النفط بست ثورات للطاقة هي: اكتشاف النار،واختراع الزراعة والاستفادة منها كغذاء وكمصدر للطاقة واستمرار عيش الانسان، وصهر المعادن ،واختراع البارود، وطاقة البخار،وطاقة الفحم، ويظل النفط أهم هذه الثورات لأنه محور كل الانتاج الصناعي والزراعي في العالم، كما أنه مصدراً لإستخراج آلاف السلع الصناعية المختلفة في العالم،.

من جانب آخر فإن أسواق النفط أكثر حساسية في التعاطي مع البيانات الاقتصادية والمخاطر الجيوسياسية، على الرغم من أنها أثبتت مراراً وتكراراً أنها أكثر مرونة مما يتوقعه التجار (وكما هو مبين في الرسم البياني ادناه) ذلك لأن الارباح الطائلة مستمرة مع الوقت وبالأخص في زمن الحروب والنزاعات، والدليل على ذلك هو أن الأوروبيين لن يستطيعوا الاستغناء عن النفط الروسي في الامد القريب.

من ألطاف الله أن اكتشاف النفط في ليبيا قد تم سنوات بعد نيل الاستقلال وليس قبله وإلا ماكانت البلاد لتنال استقلالها أو تكون ليبيا بلداً واحداً كما نعرفها اليوم، ولقد لعب النفط في ليبيا ثلاث أدوار رئيسية أو استراتيجية وهي : (1) شراء السلم الاجتماعي والذي بدوره حافظ على وحدة البلاد(2) حول التنمية إلى تنمية موجهه بالموارد حتى وإن لم تكن تنمية حقيقية مثل التي حققتها دول الخليج وكوريا الجنوبية وسنغافورة، (3) ثبات سعر صرف الدينار الليبي أمام العملات الاجنبية. أما عدا ذلك فلم نجني من النفط إلا المرض الهولندي وأعراضه المعروفة وهي الكسل والفساد والاستبداد.

إن الدور الاستراتيجي للنفط في ليبيا يقودنا بالضرورة إلى السؤال التالي وهو مالفرق بين مفهومي الثروة والدخل وتوزيع الثروة؟ وهل النفط في ليبيا ثروة؟ وأن الاجابة عن هذا السؤال بكل بساطة هي أن مفهوم توزيع الثروة هو طرح ايديولوجي، وأن الثروة هي من تولد الدخل، وبالتالي فالثروة سبب والدخل نتيجة، وأن الدخل في حد ذاته هو عبارة عن قيمة مقيدة بفترة زمنية، وبالتالي فإن إيرادات النفط الليبي تُعد دخلاً وليست ثروة لأنها تدخل في ميزانية الدولة تحت بنود و أبواب الإنفاق المعروفة سواء الجارية منها أو الاستثمارية.

من نافلة القول أن الاقتصاد الليبي مشوه في هيكله، لأن العلاقة بين البنك المركزي والاقتصاد الليبي بجناحيه العام والخاص يحكمها مبدأ “Cash Call”، وبالتالي فالإصلاح أو إعادة الهيكلة لابد أن تتم في الهيكلنفسه، ومن جانب آخر، فالخلل في ليبيا يكمن في ادارة النفط أو إدارة الموارد وليس في خام النفط، ولقد أوضح وبكل جلاء العلامة الراحل “مايكل بورتر” أن المشكلة في ليبيا تكمن في صناعة القرار وتبعاته، ولقد وصف الاقتصاد الليبي في العام 2007 بالاقتصاد التواكلي، حيث توفر الحكومة غالبية الوظائف للمواطنين كنوع من العدالة الاجتماعية، ناهيك عن الدعم الذي يتحصل عليه المواطن العادي على راتبه ودون أن يحقق ذلك إنتاجية حقيقية للاقتصاد الوطني، وأضاف بورتر أن الشركات الكبيرة مثل شركات النفط والبتروكيماويات الوطنية وحتى العالمية منها لن تكون قادرة على توفير الوظائف الكافية للقوة العاملة في المدى المتوسط على الاقل.

عطفاً على ماسبق، فإن الحديث عن الميزانية والايرادات والانفاق العمومي يقودنا حتماً إلى الحديث عن مفهوم هام وهو الاستدامة المالية، وكيفية تحقيقها، وبشئ من التفصيل فالاستدامة المالية تتعلق بسياسات الإنفاق والإيرادات في الوقت الحالي دون خفض الموازنة العامة أو التعرُّض إلى خطر الإفلاس الذي يتسبب بعدم القدرة على الوفاء بالالتزامات المالية المستقبلية، وهي تحوي منظومة وأدوات مالية قادرة على التأثير والتفاعل الإيجابي مع كل المتغيرات والتحولات على المستوى المالي والاقتصادي.

في الأثناء، أعلنت “أوبك+” خفضاً في انتاج النفط الخام، وهذا الانخفاض لن يكون له أي تأثير على النمو الاقتصادي على المدى القريب، بل ولن يكون له تأثير يُذكر على الاقتصاد غير النفطي، لكن الخطر الحقيقي هو أن يؤدي انخفاض الإيرادات من بيع النفط الخام إلى ضغوط على المالية العامة للدول النفطية، وإلى تراجع الحكومات عن برامج التنمية والتطوير المخطط لها كما حدث عندما انهارت أسعار النفط في العام 2014، دون أن نغفل عن تنامي دور الطاقات النظيفة والمتجددة لعلابرزها الطفرة التي يشهدها انتاج وسائل النقل التي تعمل بالطاقة الكهربائية، وإلى سعي الدول للوصول للحياد الكربوني بحلول العام 2050.

في ذات الاطار يتوقَّع بنك الاستثمار الامريكي”غولدمان ساكس” أن لايؤثر تراجع أسعار النفط الخام على اقتصادات الدول الخليجية بشكل كبير خلال الفترة المقبلة لعدد من الأسباب أو العوامل أهمها: (1) ارتفاع الإيرادات غير النفطية بجانب الفوائض المالية الضخمة والتي تُمثل مصدات ضد أي مخاطر محتملة، (2) انخفاض الإنفاق مع توقُّعات بقاء أسعار النفط عند مستويات معتدلة (فوق مستوى 70 دولار للبرميل)، (3) المساحة الكافية أمام دول الخليج لتقبل ديون إضافية، (4) الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية في دول الخليج، ويتوقع البنك الأميركي أن يتراجع نمو اقتصاد دول الخليج إلى 2.6% خلال العام 2023، وقد بنى البنك توقُّعاته على سعر برميل النفط الخام عند 75.7 دولار للبرميل وهو الذي يسجل سعراً يحوم حول 73 دولار ساعة كتابة هذه الاسطر.

بعيداً عن النفط واقتصاد الريع، فإن الموقع الجغرافي لليبيا والموارد الطبيعية المتاحة والممكنة فيها مثل الرمال والتمور والخضروات والفواكه والثروة السمكية والخامات المعدنية ومكونات الاقتصاد الازرق، مع التوسع في تكرير النفط الخام والاستفادة من الصناعات القائمة عليه كالبتروكيماويات، كل هذا قادرعلى خلق اقتصاد حقيقي وبديلاً للاقتصاد الريعي القائم على تصدير النفط الخام ولكن بشرط توفر إرادة حقيقية وتخطيط سليم ورأس مالي بشري.

إن الدور الذي لعبه النفط في ليبيا في السابق لم ولن يلعبه في المستقبل، ودون الحاجة لتكرار محتوى مانشرته خلال السنوات الماضية من مقالات عن الاقتصاد الليبي فإننى أرى أن الفرصة مواتية لإطلاق رؤية تنموية مصحوبة بآليات واضحة ومرنة بهدف تنويع الاقتصاد، وأن تنفيذ هذه الرؤية يتم بمشاركة القطاع الخاص وبتوجيه أدوات الاستثمارالحكومية الليبية في الاستثمار في الداخل لأجل خلق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، وبما يحقق الأمن الوطني الشامل بكل ابعاده الديموغرافي والغذائي….الخ.

ختاماً، لو سلمنا جدلاً أن النفط في ليبيا هو ثروة فإن الهدف المنشود من توزيع الثروة هو توفير الوسائل العملية لأجل تحقيق أفضل مستوى ممكن من العدالة والشفافية، والتي تعمل بدورها على عودة روح (المواطنة) إلى المواطنين وبما يؤدي تلقائياً إلى عودة شعور الانتماء الحقيقي للوطن والذي لاغناً عنه لتحقيق السلام والاستقرار والوصول لحالة الرفاه، وأنني أدعو الى ضرورة الإسراع في تبني اقتصاد بديل للاقتصاد الريعي في ليبيا، وإلى ضرورة تجنيب إيرادات النفط (قدر الامكان) عن موازنة الدولة وعن الإنفاق الاستهلاكي الذي يميز المجتمع الليبي، وبما يحافظ على قيمتهما من ناحية، وبما يوفر عائداً مقبولاً مع بقاء تلك القيمة غير منقوصة من ناحية أخرى.