الخبير المصرفي نوري بريون يكتب مقالاً بعنوان: آلية التنفيذ الاقتصادي

351

كتب الخبير الاقتصادي نوري عبدالسلام بريون مقالاً بعنوان”آلية التنفيذ الاقتصادي” قال فيه:
منذ آلاف السنين، بل منذ خرج سيدنا آدم من الجنة، وفي معيته زوجته حواء، والحاجات الأساسية للإنسان هي التي توجه سيدنا آدم ومن بعده أولاده وأحفاده، حتى يومنا هذا، إلى البحث عن السلع والخدمات الضرورية، لإشباع تلك الحاجات الضرورية للإنسان. علما أن الله قد نبه سيدنا آدم بقوله سبحانه وتعالى ( وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين 35) سورة البقرة، كما نبهما الله سبحانه وتعالى بأن خروجهما من الجنة سيجلب لآدم الشقاء في شكل العمل لأن سنة الحياة الدنيا لا يوجد شيء نافع بها بدون تعويض، إذ قال سبحانه وتعالى (فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى 117، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى 118، وأنك لا تظمؤُ فيها ولا تضحى 119،) سورة طه، وهذا يعني للحصول على الحاجات الرئيسة للإنسان ، فإنه لا بد من العمل والشقاء لإنتاج السلع والخدمات النافعة لغرض إشباع تلك الحاجات.

عندما نشطت النظرية التقليدية في القرن التاسع عشر، وتوسعت في تعميق آلية السوق دون ألأخذ في الحسبان التغير الاجتماعي، وافتراضها بمرونة الأجور وسعر الفائدة، وحيادية النقود مع تأثيرها الطردي في الأسعار فقط، مما كانت نتائجها معيبة، وبالتالي وجب تصويب هذه العيوب من آلية السوق وحدها، وفي هذا التحليل الكلاسيكي قد اعتبرت اليد الخفية لآدم سميث هي التي تعمل للصالح العام.
لكن بظهور نظرية كينز في الدخل والنقود وسعر الفائدة عام 1936 قد تم تهذيب تطرف آلية السوق بعدم حيادية النقود من جهة، وبالأثر المتبادل بين النقود وآلأسعار في الجانبين من معادلة التبادل ( ن و=ع د ) التقليدية من جهة أخرى، وليس في جانب الأسعار فقط ، الذي تتبناه النظرية التقليدية . حيث الحرف (ن) يرمز لكمية النقود، والحرف ( و) يرمز لمعدل دوران النقود، والحرف (ع) يرمز للرقم القياسي للأسعار، والحرف (د) يرمز للدخل القومي الحقيقي بالعملة الوطنية. أي تبنت النظرية التقليدية حيادية النقود وأثرها المباشر في إتجاه واحد، أي زيادة عرض النقود تؤدي إلى زيادة الأسعار، وليس العكس، أي أن زيادة الأسعار ليس لها علاقة مباشرة بكمية عرض النقود؛ لكن التطور الذي حصل في التحليل الكينزي جعل زيادة الأسعار تؤدي إلى إنخفاض كمية عرض النقود الحقيقية، من خلال إنخفاض القوة الشرائية للنقود، ذلك لأنه بارتفاع أسعار السلع والخدمات، يزداد الطلب على الائتمان، فيزداد عرض النقود بالاقتصاد، أو من خلال ممارسة السياسة المالية التي يراها كينز أكثر فعالية من السياسة النقدية، لأن آثارها تكاد تكون مباشرة من خلال آلإنفاق والدعم الحكومي، أو من خلال خصم الضرائب.

وإذا أضفنا الدعائم الاقتصادية ادية التي يقدمها الاقتصاد الليبي من خلال دعم آلأسعار بنسب كبيرة ،وآلتي يقدمها الاقتصاد الإسلامي من خلال فريضة الزكاة والصدقات المختلفة الاخرى ، مما تزيد من الرفاهية في ليبيا، فإنه من الممكن التركيز على مقولة عنوان المقال ( آلية التنفيذ ألإقتصادي ) بمراعاة المبادئ وآلأسس الفنية لإقتصاديات المشروع من جهة، والسياسات المالية والنقدية والتجارية من جهة أخرى، وعدالة التوزيع من جهة ثالثة. أما آلية التخطيط التي وضعته الحكومة الليبية في إدارتنا الاقتصادية، في السابق وحالياً، فإنها تجري على أساس الدولة الرأسمالية التي بها حكومة قوية قادرة على إدارة المؤسسات المختلفة بكفاءة ملائمة، كما فرضها آدم سميث ضمن تحليله التقليدي بينما نحن في ليبيا دولة نامية ومتخلفة في الغالب في التنمية البشرية، وبالتالي ليست رشيدة في إدارتها وتوجيه مؤسساتها، الأمر الذي يدعو إلى إدخال الاعتبار الاجتماعي التعاوني، بتحفيز الشعب لكي يخدم نفسه، ويحل جزءاً من المشاكل التي تواجهه مثل التضخم والنقص في السلع والخدمات الضرورية، بسبب تخلفه التربوي وآلإقتصادي.

إذن يمكن التركيز على ( آلية التنفيذ ألإقتصادي )، والمقصود منه هو وضع آلية للتنفيذ قابلة للإستمرار وتهدف إلى بعث النشاط ألإقتصادي من العدم، مثل توجيه الطلبة القادرين جماعات وأفرادا إلى المشاركة في النشاط ألإقتصادي الذي يحتاج إلى العمالة ولا توجد محليا ، مما تضطر البلاد إلى جلب العمالة ألأجنبية وترك العمالة المحلية عاطلة، فتفقد جزءا من نقدها ألأجنبي، وتحصل البلاد على معدل نمو متباطئ، إن لم يكن متناقصا.إذن وجب تحفيز الشباب بآليات تنفيذية قادرة على توجيه تلك العمالة العاطلة إلى الخدمات المساعدة في محطات توزيع البنزين، وآلأسواق التجارية، وغرس النخيل وآلأشجار، وغيرها من النشاطات الإقتصادية، مثل النظافة في المدن الليبية، كما هو واضح في ألإقتصاد الليبي علماً أن الشباب التائهين في المدن، والمتسكعين في الشوارع، والجالسين في المقاهي في كل حي وشارع،بت فحص سلوكهم وبالنظر إلى ملابسهم، وجيوبهم الفارغة، تجزم بأنهم ينتمون إلى الطبقة الفقيرة، الأمر الذي يؤكد أنهم في حاجة إلى العمل والحصول على دخل مناسب يرفع من مستواهم وينقذهم من مرض التكاسل والاتكالية. أليست هذه من مسئولية الدولة، لأنها جزء من مسئولية المجتمع، وعندما تشتد صلابة المرض قساوة ،فوجب أن يكون العلاج موجعاً لتفتيت تلك الصلابة، ألم يقل أمير الشعراء أحمد شوقي في علاج مرض كليوباترة ( فبعض السم ترياق لبعض…وقد يُشفى العُضال من العـضال).

إن كانت الدرجة العليا في الوطنية هي الدفاع عن الوطن بالروح والنفس، فإن أدناها هو ممارسة التقشف من أجل المحافظة على إستقرار إحتياطيات البلاد من النقد الأجنبي، لأنه في الوقت الحالي هو قوت الليبيين لكي لا يجوعوا من جهة، ولأن مصدر النقد الأجنبي في ليبيا هو النفط فقط الذي تتحكم في أسعاره الدول الغربية من جهة أخرى. لذلك كل من يقوم بعمل حتى أقل من مستواه، لتفادي العمالة غير المهرة من أجل توفير النقد ألأجنبي، أو زيادة ألإنتاج وآلإنتاجية في السلع التصديرية ،لغرض زيادة رصيدنا من النقد ألأجنبي أو زيادة الرفاهية في البلاد، فهو يساعد أهله المواطنين، فيثاب مرتين، أي يحصل على أجرين، الأول هو أجره في الدنيا، وكذلك كسب بلاده عدم دفع تكاليف الأيدي العاملة الأجنبية والثاني هو ثواب الله في آلآخرة على أهل الوطن الذين قاموا بالنشاط الإقتصادي لتعمير الأرض، وهم يعلمون أن الله هو الذي خلقهم لكي يعمروا الأرض ويأكلوا من مناكبها، نعم إن الله واسع الكرم والعطاء.

وإذا كنا فعلاً نحتاج إلى العمالة الوافدة، فعلى الأقل وجب تنظيمها من أجل تعلية مستوى الاستفادة منها اقتصادياً، والمسؤول الأول في هذا الشأن هي وزارة العمل، لأنها هي آلية التنفيذ الاقتصادي في مجال العمل وما يصادفه من مشاكل مثل عدم وجود العمال المهرة، وإن وجدوا هل يوجد القانون الذي يحفظ حقوقهم، إن كثرت العمالة غير المهرة في البلاد فهل يوجد لها سبب مثل كسل الليبيين من جهة، ولا يحسنون الطاعة في العمل من جهة أخرى. أم أن الليبي نفسه يتفادى إستخدام أخيه الليبي بحجة أنه كسلان وغير مطيع، وهذه الحجة يصعب تفنيدها، إذ المثل الليبي القديم ( إللي بترهنه بيعه ، وإللي بتخدمه طيعه ). ومع ذلك تستطيع الدولة أن تعتمد بدون شك على الخبرة والتأهيل الذي كان ينقصنا في الخمسينيات، حتى أن بعض شركات النفط آنذاك تتجاوز نسبة عدد العاملين الليبيين في الشركة 80% من عدد العاملين بها، بينما كانت نسبة قيمة مرتبات الليبيين بالكاد تقل عن 20% من قيمة مجموع المرتبات؛ لكن في الوقت الحاضر يتوفر عدد كبير من ذوي الخبرة والمؤهلات يعيشون في بطالة مقنعة في القطاع العام، الأمر الذي يجعل الحكومة قادرة على المساهمة في التنمية بإنشاء شركات مساهمة تحت إدارة القطاع الخاص لإمتصاص العدد الملائم من البطالة المقنعة المذكورة أعلاه، كما يُسمح لشركة أجنبية منافسة أن تساهم في الشركة الليبية في ظل التعاون بين البلدين بنسبة أقل من 50%، ثم على الحكومة الليبية أن تساهم بالجزء الباقي غير المكتتب فيه من رأس المال.

ولتكون الشركة الليبية تحت إدارة القطاع الخاص أن تختار من ذوي الخبرة والمعرفة والحرفة في أعمال الشركة فتُعين منهم عشرة أعضاء أو أكثر للقيام بعملية المضاربة فيما تملكه الحكومة، عندئذ إن تحققت أرباح فتقسم بينهما بنسبة يتفقان عليها، وإن تكبدت الشركة خسارة فتكون على الحكومة صاحبة رأس المال فقط ، وليس على المضارب، لأنه يفقد جهده فقط، وهو الحل الإسلامي في هذا الشأن.

هذا هو الطريق المضمون للتنمية، وليس دعوة الشركات الأجنبية تأتي بجميع عمالها ومديريها كما حصل في السابق، وعندما انفجرت ثورة 17 فبراير، رحلت الشركات بطواقمها وتركت الأعمال غير كاملة، حتى حصل فراغ إقتصادي واسع وعميق.
إذن يجب ألا تتكرر هذه المأساة، وذلك بإنشاء شركات ليبية يملكها المواطنون بالكامل، أو أغلبها، وليس تكليف شركات غير وطنية، سواء كانت تركية أو كورية أو مصرية، لكي لا يحصل فراغ إقتصادي آخر.