الشحاتي يكتب :القطاع الخاص في ليبيا، دوره في الاقتصاد الوطني بين الاجبار والتقصير، تحليل من زاوية إدارة المخاطرة

231

كتب:الخبير بالمجال النفطي محمد الشحاتي

مر الاقتصاد الوطني الليبي بمراحل مختلفة وفقاً للأنظمة السياسية التي قادت الدولة قبل استقلالها وبعد تأسيسها كدولة مستقلة.

الاقتصاد في العادة نظام توارثي حيث ترتبط المهن والنشاطات التي يقوم بها أبناء البلد بالتراث الثقافي والاجتماعي للبيئة التي ينشئون بها وتنتقل المهارات وتتراكم من خلال الترابط بين الأجيال لتصنع للدولة موقعا تنافسيا مميزا في نظام تكاملي دولي، تكون الموارد الطبيعية وعوامل الطقس أهم عوامل بناء النشاطات الاقتصادية للأفراد وتصوغ منها الابداعات الفردية الهيكل الاقتصادي للدولة.

تاريخياً وقبل ظهور النفط، اعتمدت ليبيا كمنطقة جغرافية فقيرة الموارد الطبيعية على نشاطي الرعي والزراعة وإلى حد ما تجارة العبور نظرا لموقعها الجغرافي الرابط، وقطاع صناعي هامشي متركز في المراكز الحضرية لبعض الصناعات اليدوية.

معظم هذه الأنشطة الإنتاجية لم تكن تعتمد إلى حد كبير على الاستقرار المكاني كشرط لنجاحها، بل إلى المرونة في التنقل في مساحات شاسعة، مما أنتج ثقافة فطرية تتعامل مع المخاطر بتلافي تعميق القواعد المكانية، وهذا تباين كبير مثلا مع ثقافات اقتصادية مجاورة كالتي موجودة في مصر أو تونس والتي تعتمد على التأصيل المكاني للأنشطة والأعمال.

الثقافة الاقتصادية الليبية التاريخية أيضا تختلف عن ثقافات امارات الخليج العربي النفطية التي عاشت قبل ظهور النفط على الموارد الطبيعية البحرية والتي تحتاج إلى نقاط معينة في اليابسة كمقر واستقرار مما ساهم في تعزيز ثقافة التأصيل المكاني لقواعد النشاط.

وبغض النظر عن الجوانب السياسية فإن العامل الخارجي كان له آثار في التأثير على هيكلية الاقتصاد الليبي تاريخيا، قبل ظهور النفط في البلد “ربما لحسن الحظ” لم تكن الدولة العثمانية وفقاً لتقنيات العصر مهتمة كثيراً بتأصيل القواعد المكانية للنشاطات الاقتصادية الليبية بخلاف مراكز حضرية معينة تم فيها تأسيس أسواق ثابتة للتداول التجاري مثل “سوق الترك” في مدينة طرابلس، بينما استمرت الحركة التجارية متنقلة في أسواق أطلق عليها أيام الأسبوع في قرى متباعدة مثل سوق الاحد، سوق الخميس، سوق الجمعة، سوق الثلاثاء.

بينما كان العامل الإيطالي رغم قصر مدته الزمنية مختلفا حين توجه إلى تأصيل القواعد المكانية للنشاطات الاقتصادية باستحداث المزارع الشاسعة والاستغلال الأقصى للطاقة الإنتاجية للمكان والتي كانت غير واضحة في الهيكل الاقتصادي الليبي.

بالطبع كان وراء هذا التوجه هو المشروع الاستيطاني الإيطالي وذلك بإحلال الشعوب الإيطالية محل الكثير من السكان الأصليين في هذه القواعد المكانية، وقد ساعده في ذلك تغير تقنيات العصر من ناحية سهولة تنقل الأفراد والاموال .

التطور الذي أحدثه العامل الخارجي في ليبيا سبب شرخا كبيراً بين الهيكل المتوارث الطبيعي للاقتصاد الليبي وبين هيكل مستورد تماما من الجانب الأوربي، وبينما هنا لا أدخل في تقييم هذا الشرخ إلا أنه ببداية هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية وظهور بوادر نهاية مشروعها الاستيطاني في ليبيا، نشأ وضع واضح ظهر فيه هيكلان اقتصاديان أحدهما أستمر في تبني استراتيجيات الحذر من التأصيل المكاني للنشاطات الاقتصادية بينما استمر الثاني في توطيد القواعد بإدارة في أغلب الأوقات غير وطنية.

العوامل السابقة لم تسمح بنشوء قطاع خاص وطني متكامل ومتماسك، بل دفعت إلى وجود كيانات خاصة متناثرة تفتقر إلى الارتباط الشبكي عن طريق سياسات الاستثمار والتمويل. بدون هذين الركنين لا يمكن القول إن هناك ظروف منطقية قادت إلى ميلاد قطاع خاص متحد في ليبيا يمثل هيكل الرأسمالية الوطنية.

اكتشاف النفط في ليبيا والبدء في تصديره بالتأكيد سبب الكثير من التغيير في هيكلية الاقتصاد الليبي؛ لم تكن نشاطات التعدين والاستخراج يوما جزءا من الثقافة الاقتصادية المتوارثة في ليبيا ولم يكن هناك بالطبع بنية تحتية سواء من الناحية البشرية أو الفنية لمثل هذه الصناعة.

كان النموذج المعروض على ليبيا من قبل الشركات العالمية وهو النموذج السائد عالميا حينها يعتمد على الفصل الكامل بين الاقتصاد الوطني وتأسيس صناعة نفطية في البلد بواسطة شركات عالمية. وبينما كان هذا نموذجا مريحا للدولة الليبية ألا أن الآثار العميقة التي سببها لاحقا على الهيكل الاقتصادي كانت سببا في اضطرابات جسيمة من ناحية توازن المسيرة الوراثية للاقتصاد.

فبتطور انتاج النفط وتحصيل عوائده الريعية وفقا لآليات الملكية العامة للثروة النفطية برز شرخ كبير بين رافدين للاقتصاد من ناحية إدارة المخاطرة كانت المخاطرة شبه معدومة في الآليات الملحقة بالصناعة النفطية وبالتالي الأنشطة الاقتصادية الحكومية بينما تصاعدت المخاطرة في الآليات المستقلة الأخرى. بطريقة أو أخرى يمكن فهم ذلك ضمن إطار نظرية “الداء الهولندي” الاقتصادية، التي تقول إن الأنشطة غير المرتبطة بقطاع استخراج الثروات الطبيعية في الاقتصاد تضمحل نتيجة تزايد نسبة المخاطرة بها مما يؤدي الى ضعف التراكم الرأسمالي من مزاولتها مقارنة بنشاط الاستخراج.

الوفرة النسبية للأموال لدى الأفراد بعد تصدير النفط أدت كذلك إلى تجاوزهم عن المنتجات المحلية الأقل جودة واتجاههم إلى السلع الأجنبية التي سرعان ما بدأت تغزو الأسواق الليبية، الإنتاج المحلي من السلع المختلفة بدأ يختفي من السوق ألا حين تتدخل الدولة بنظام حمائي جمركي أو ضريبي.

في ظل هذا الظروف أنقسم الاقتصاد الليبي بين القطاع العام والقطاع الخاص التطور السريع للحياة العصرية وما تحتاجه من تخصيص استثمارات هائلة لمسايرة هذا التطور في تشييد البنى التحتية والفوقية كذلك حتم على الدولة أن تتوسع في القطاع العام لسببين جوهريين: الأول هو عجز القطاع الخاص (الآتي عبر التوارث التاريخي) عن الاستثمار في آليات إنتاجية جديدة تستطيع مسايرة حاجات المجتمع، أما السبب الثاني فأن القطاع الخاص فضل في هذه المرحلة الارتباط الخارجي في صورة التوكيلات التجارية والاستيراد وساعده في ذلك الممارسات الاحتكارية التي كانت سائدة عالميا وخصوصا في دول العالم الثالث وينطبق هذا إلى حد كبير على جل الدول النفطية في المنطقة.

لم يستطيع القطاع الخاص إذا ما افترضنا وجوده في ليبيا فعليا المشاركة في عملية التنمية الاقتصادية في ليبيا إلا على الهامش ولم يكتسب عمليا خبرات يمكن بها أن يطور من أدائه ويرفع بها كفاءته، بالطبع سيجادل الكثيرين بفترة معينة من الزمن تم فيها إلغاء التجارة والمقاولات الخاصة في ليبيا كسبب لتخلف القطاع عن المسيرة الاقتصادية الوطنية، وهو إلى حد كبير صحيح وأعطى فرصة كبيرة للقطاع العام أن يتقدم في أراض ما كان ينبغي له أن يتقدم بها، ولكن يجب ملاحظة أن هذه الفترة لم تستمر طويلا من الناحية الزمنية وأن المساحات التي احتلها القطاع العام هي صغيرة جدا وغير فعالة على مستوى الدفع بالاقتصاد إلى الأمام.

اليوم هناك أزمة اقتصادية حقيقية تمر بها البلد تتمثل في عدم القدرة على الاستثمار وبالتالي احتمال انهيار للتنمية وما قد يجلبه هذا من المزيد الاضطرابات السياسية والاجتماعية.

يتضح من الموقف الاقتصادي وأظن أن هذا قد تم اكتشافه منذ بداية الألفية الجديدة بأن التوسع غير العقلاني في القطاع العام مع تعمد تأخير استكمال تكوين قطاع خاص فعال أدى إلى تفاقم الشلل الاقتصادي في النظام الليبي، فالاستثمار الحكومي ضمن نظرية التخطيط المركزي فقد الكثير من معانيه وكفاءته نتيجة الفساد المصاحب وعدم القدرة على تفعيل الرقابة الفعالة على الأداء المالي لأجهزة القطاع العام وفي الوقت نفسه لم يستطيع القطاع الخاص أن يتخلص من عيوبه الموروثة في تقبل المخاطرة المالية لتأسيس مشاريع جديدة تدخل في نطاق الابداع الفردي.

إن عدم وجود قاعدة رأسمالية وطنية تعمل بآليات مرنة في مجالي الاستثمار والتمويل وتساعد على بناء شبكة تربط الكيانات الخاصة المتناثرة هو سبب أساسي في فشل التوازن بين القطاعات الاقتصادية في الدولة الليبية هذا ينطبق اليوم تماما على الصناعة النفطية كذلك.

يحتاج القطاع الخاص الوطني إلى رؤية استراتيجية تبنى على التقليل من البعد الفردي الشخصي في مؤسساته، تكثيف عمليات تكتل مكوناته المتباعدة، تحسين الربط المالي في شبكة استثمار وتمويل مشتركة، التركيز على المشاريع التنموية في البلد والابتعاد عن المجالات الاستهلاكية بقدر الإمكان.

المؤسسات المتخصصة مثل سوق الأوراق المالية، والبنوك يمكن أن تساعد في تسريع بناء فعالية للقطاع الخاص مما سيزيد الثقة به من ناحية الجمهور والرأي العام.