الشحاتي يكتب: دور المصرف المركزي الأسود الافتراضي في سعر الصرف

442

تمر الدول باضطرابات قاسية عندما تقرر وفقا لسيادتها الوطنية صك عملتها المحلية الخاصة بها. قديما وقبل استقلال دول كثيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم يكن أمر إدارة النقود مشكلة حيث كانت الأسواق تتداول العملات الكبرى في المنطقة مثل الروبية الهندية، الليرة التركية، الجنيه الإسترليني.

في النصف الثاني من القرن العشرين استقلت الدول سياسيا وأتبع ذلك ضرورة استقلالها الاقتصادي عن المستعمر القديم سواء السياسي أو الاقتصادي، وتغيرت الخريطة المالية الدولية وفقا للتغييرات التكنولوجية التي طرأت على توزيع المواد الخام وأهمية كل عنصر ومنطقته الجغرافية مثل النفط أو الغاز الطبيعي في الهيكل الاقتصادي العالمي.

في كل دولة بالمنطقة وغالبا على شاطئ البحر أو في أهم منطقة تجارية بالعاصمة إذا لم تكن العاصمة ساحلية، ستجد مبنى فاخرا تحوطه ساحة كبيرة عادة ما تستعمل كموقف للسيارات يطلق عليه المصرف أو البنك المركزي. طبعا المعروف في الأدبيات الاقتصادية أن هذا المصرف هو مصرف المصارف فهو لا يستقبل زبائن أفراد بل هو المصرف الذي تودع فيه المصارف أموالها. أحيانا يتم استثناء أجهزة اعتبارية معينة مثل أجهزة الدولة لتكون زبون لهذا المصرف مثل وزارة المالية.

أدوار المصرف المركزي متعددة ومختلفة حسب الدولة ولكنها كلها تتفق في أن هذا المصرف هو الجهاز المركزي لإدارة النقد في الدولة بما يحقق هدف الاستقرار المالي ومنع خروج التضخم عن السيطرة والحفاظ على السيولة النقدية من العملة المحلية في الأسواق الداخلية.

لن أمر على كل هدف فهي موجودة بوضوح عندنا في ليبيا في قانون المصارف لسنة 2005 وتعديلاته. ولكني سوف أركز على هدف غير موجود صراحة في القوانين وهو عدم السماح بتشكيل “المصرف المركزي الأسود” بين سحب وغيوم البلد. المصرف المركزي الأسود لن يتخذ مبنى شاهقا في وسط البلد بل سيعبر بين السحب التي تسبح في فضاء البلد، ولن يبني قنوات رسمية تربطه بالممرات العلنية لانتقال النقود بل سيتسرب في قنوات مخفية موازية سيتم تصميمها لتتناسب تماما مع طريقة الأعمال في البلد.

إذا في كل دولة هناك “مصرف مركزي أسود” يعمل بالتوازي تماما مع عمل المصرف المركزي العلني ولكن تختلف قوة هذا المصرف من دولة لأخرى. نخطئ تماما إذا ما اعتبرنا أن هذا “المصرف المركزي الأسود” عشوائي ليس له هيكل تنظيمي وليس له محافظ يدير شؤونه ولا توجد له علاقات دولية تدعمه في اتخاذ قرارته.

الجمهور من الأفراد والتجار سينتقل وفقا لمصلحته المادية من مصرف إلى مصرف ولن يهمه إطلاقا شعارات الوطنية والانتماء وغيرها. سينتقل إلى الصرف الذي سيمنحه تسهيلات مالية ميسرة حتى لو رفع المصرف الرسمي شعار “الصيرفة الإسلامية” وسيشري العملة الصعبة من المصرف الذي سيوفرها له بسعر منافس وفي الوقت المناسب حتى لو رفع المصرف الرسمي شعار منحة أرباب الأسر أو رسوم التحويل.

تحاول الدول استيعاب هذا النشاط الأسود وتنجح فيه باتباع سياسيتين، الأولى تعويم أو الدفاع عن سعر الصرف، والثانية تضخيم سعر الفائدة على الودائع بحيث لا يستطيع المصرف الأسود منافستها. وتنجح الكثير من الدول في إدارة هذا الوضع النقدي المعقد بجهود حقيقة ومضنية تتركز في الأساس على التوقع المسبق لسلوك “المصرف المركزي الأسود” تجاه كل سياسة.

أصعب هذه السياسات هي الدفاع عن سعر صرف ثابت حيث أنها لا تنجح إلا في وجود تدفق نقدي قوي يفوق حاجيات الدولة من النقد الأجنبي حيث سيصعب على “المصرف المركزي الأسود” التلاعب ضد سياسات المصرف المركزي الرسمي. فالمصرف الأسود لن يستطيع التوقع متى سيتم رفع سعر الفائدة المحلية التي ستسحب عرض النقود باتجاه الإدخار المحلي أو تخفيضها لترفع الطلب على العملة الصعبة نتيجة لذلك. كما أن المصرف المركزي الرسمي سيكون له السبق في تحديد تغيرات مفاجئة على سياسة سعر الصرف يمكن أن تصيب المركزي الأسود بخسائر فادحة تقسم الظهر.

اليوم في ليبيا نواجه وضع معقد فيه الكلمة العليا للمصرف المركزي الأسود بدون جدال. المشكلة أن السياسات النقدية للمصرف المركزي الرسمي مكشوفة تماما أمام مجلس إدارة المصرف المركزي الأسود. فالمصرف المركزي الأسود عن طريق إدارة الإحصاء والبحوث لديه يعلم تماما قدرة المصرف المركزي الرسمي على الانفاق المحلي والخارجي والاحتياطات الأجنبية والدخل المتوقع وعدم القدرة على سحب النقود من الأسواق لعدم وجود أداة سعر الفائدة. الجهات الدولية الداعمة للمصرف المركزي الأسود ستعد له الاستراتيجيات المناسبة لهزيمة أي سياسات قد يتخذها المصرف المركزي الرسمي للحد من النشاط الأسود بما فيها دعمه بالمضاربة على مواقف الرسمي.

في ظل الحديث اليوم عن توحيد سعر الصرف وإعطاء أرقام معينة لسعر الصرف الجديد هل يتوقع الرسميون أن المصرف المركزي الأسود هناك عبر السحاب نائما.

ماذا لو دخل المصرف المركزي الرسمي بسعر الصرف الجديد وعكسا لتوقعاته لم يجد الطلب المتوقع على العملة الصعبة نتيجة لقرار من محافظ المصرف المركزي الأسود بضرب السياسة الرسمية، ماذا مثلا لو قرر محافظ المصرف المركزي الأسود رفع الفائدة على العملة لدى الجمهور وهي خارج سيطرة المركزي الرسمي لتعويض خسائره في سوق الصرف الأجنبي.

مثلا هل فرضت الدولة خلال فترة المداولات العلنية على سعر صرف جديد تجميدا كاملا على أي عمليات تحويل تستفيد من المعلومات المسبقة حول مستوى السعر الجديد. هل يتم دراسة كيفية التعويض النقدي في ظل عدم وجود سعر فائدة رسمي بينما يوجد فعليا خارج سيطرة المصرف.

علينا قراءة تراث جورج سورس الملياردير الأمريكي الذي استطاع كنس العملة الأجنبية من دول النمور الآسيوية في شرق آسيا أثناء أزمة 1997 وكيف كان كمحافظ للمصرف المركزي الأسود يقرر السياسات النقدية عبر السحاب لدول فقدت القدرة جزئيا على إدارة عملتها المحلية.