الشحومي يكتب: الشعبوية الاقتصادية

255

كتب: سليمان الشحومي – خبير اقتصادي

تعرف العديد من أدبيات علم الاقتصاد الشعبوية الاقتصادية بأنها منهج لإدارة الاقتصاد ترتكز على محاولة الدفع بمعدلات النمو الاقتصادي وإعادة توزيع الدخل ولا تعطي أهمية لمخاطر التضخم وتمويل الميزانية بالعجز بشكل مستمر وتقلل من أهمية تفاعل آليات السوق المعروفة باقتصاد السوق، وواقعيًا الاقتصاد الشعبوي ظهر بقوة في دول أمريكيا اللاتينية في كل من البيرو والارجنتين وشيلي، وتكون البداية للتوجه نحو الاقتصاد الشعبوي عندما يعاني الاقتصاد المحلي خللا ظاهرا ينعكس علي حياة الفئات الضعيفة بسبب تزايد البطالة وارتفاع التضخم وانهيار قيمة العملة وعندها يبدأ ضغط سياسي كبير بضرورة أن يتولي زمام الأمور فريق سياسي جديد مستخدمًا النمط الشعبوي في الاقتصاد والذي يحاول أن يدفع بالنمو عبر زيادة التأزيم للاقتصاد فيقود الاقتصاد والبلاد إلى مزيد من الأزمات برفع التضخم والتورط في سلسلة من الديون المتفاقمة والمتراكمة محليًا ودوليًا مما يصعب معها الخروج من هذه الدوامة الشعبوية والتي تنعكس بقوة في عدم عدالة توزيع الدخل برغم أن الشعبوية تقوم على مطالبات بإعادة توزيع الدخل بين الأغنياء والفقراء.

الشعبوية الاقتصادية تمر بثلاث مراحل أساسية، المرحلة الأولي هي إعادة تدوير وتنشيط النشاط الاقتصادي، والمرحلة الثانية هي إعادة توزيع الدخل عبر آليات الموازنة العامة، والمرحلة الثالثة إعادة هيكلة الاقتصاد، والمرحلة الأولي تبداء عندما يتم رسم وتنفيذ سياسات اقتصادية تعمل علي تحقيق نمو وترفع من فرص العمل وتستوعب أكبر قدر من البطالة المنتشرة ويتم فيها غض الطرف عن التضخم ويزداد العجز في الميزانية إلى درجة فقدان السيطرة ولا تستطيع الحكومة أن تتحكم في النظام الضريبي بسبب ما قد يسببه من تأثيرات على الدخول وفي المرحلة الثانية تحاول الحكومة التحكم في الأسعار بسبب ارتفاعها وانهيار قيمة العملة وفي المرحلة الثالثة يؤدي تراكم المشاكل والصعوبات إلى فقدان الثقة بالاقتصاد وتجري عمليات هروب الأموال من البنوك المحلية وهروب رؤس الأموال خارج البلاد خوفا على انهيار قيمة الأرصدة وسيطرة السوق الموازي للعملة الأجنبية بسبب نقص الاحتياطيات منها.

وبعد هذه المراحل من دورة الشعبوية الاقتصادية يحدث الانفجار وتأتي حكومة جديدة وتطلب مساعدة صندوق النقد الدولي لعلاج تشوهات الاقتصاد بسبب أن دخل الفرد أصبح أقل مما كان عليه في المرحلة الأولى وهنا تكون عملية إعادة هيكلة الاقتصاد والتي هي مثل جراحة القلب المفتوح تستلزم دما وجهد وساعات من الأمل والرجاء، والسبب هو أن الأموال تتحرك بسرعة وتختفي مثل الدم في العروق ولكن المواطن العامل يبقي في وطنه مصابا بهلع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة وسيطالب بشكل سلمي أو عنيف بتحسين مستوى معيشته التي أهلكها التضخم وفقدان العملة ونار الأسعار وضعف خدمات الحكومة الأساسية وخصوصا مع تلاشي أو تراجع برامج الحماية الاجتماعية للفئات الضعيفة بالمجتمع.

الشعبوية الاقتصادية أخذت في انتقال عدواها إلى الاقتصاديات النفطية كالجزائر وإيران وفنزويلا، وأخيرًا حتى دول الخليج أصبحت تعصف بها الشعبوية بسبب التأثير الحاد في الإيرادات النفطية بشكل مستمر لسنوات على هيكل الميزانية العامة وصعوبات تنويع الاقتصاد وتأخذ الشعبوية الاقتصادية مسارًا خادعًا في الدول النفطية والتي يتركز فيها الدخل في إيرادات النفط بسبب الاعتقاد بتوفر الاحتياطيات من العملة الأجنبية والتي يمكن استخدامها لإعادة تقييم العملة ومجابهة الدين الحكومي المحلي ولكنها تسقط بسهولة في فخ التضخم والركود التضخمي وحتما إذا استخدمت الشعبوية الاقتصادية لحل الأزمات سيدخل ذلك البلاد في نفق من الدورات المتتالية من الشعبوية وآثارها المدمرة، لذلك فإن السيطرة على التضخم ومعدل البطالة والحفاظ على القوة الشرائية للعملة المحلية هي التحدي الأكبر أمام أي اقتصاد لا يقوم على أسس سليمة وقواعد واضحة في العلاقة بين جميع الأطراف ويتقوقع تحت عبائة القطاع الوحيد المسيطر.

في بلادنا ليبيا، الشعبوية الاقتصادية أصبحت هي الوصف الأقرب لما يحدث خصوصا في ظل انعدام تخطيط اقتصادي يعمل على إعادة هيكلة الاقتصاد ويهدف لتنويعه ويبتعد عن تطبيقات الشعبوية عبر الدفع بفاتورة المرتبات لأعلى مستوى ممكن كحل تقدم عليه الإدارة السياسية أو عبر توزيع جزء من احتياطيات النقد الأجنبي بحجة توزيع الثروة وازدهار السوق الموازي للعملة بسبب نقص المعروض من العملة الأجنبية مما يلقي بضلال وخيمة على استشراء الفساد وتراكم الثروات خارج القنوات الرسمية والمنظمة بالاقتصاد مما يغير من قواعد إدارة الاقتصاد نحو فقدان السيطرة المطلقة.

الشعبوية بالاقتصاد كشعار براق يستخدم للوصول للسلطة السياسية بهدف تحقيق العدالة في توزيع الدخل ولكنها تفشل وتعطي صورة مزيفة عن حالة الاقتصاد والاستمرار في نهجها باعتبارها شعار يستخدمه ويقبل عليه الساسة الجدد في بلدان تعاني صعوبات اقتصادية بهدف الوصول أو الاستمرار في المواقع الحكومية قد يكون أكثر قسوة على الاقتصاد الوطني علي المدي البعيد.

ليبيا كاقتصاد اعتمد كثيرا على الشعبوية سابقا وحاليا كمنهج لحل الأزمات دون الالتفات إلى إعادة صياغة رؤية اقتصادية شاملة تعيد بناء هيكل اقتصادي يتعاطي مع الأزمات بعقلانية ويبتعد عن الدور الشعبوي الاقتصادي.