حبارات: تصريحات وزير المالية الأخيرة غير واقعية وتفتقر للدقة ولا تخفي حقيقة الأوضاع المالية المتأزمة للحكومة

223

كتب: نورالدين حبارات – متابع ومهتم بالشأن الاقتصادي

أدلى السيد وزير المالية مؤخراً من خلال مؤتمر صحفي بتصريحات عن الأوضاع المالية للدولة وعن بعض الإجراءات التي تعتزم الحكومة أو الوزارة اتخادها لا سيما فيما يتعلق بصرف المرتبات المستحقة والمتراكمة لعشرات الألاف من المواطنين المعينين منذ سنوات.
ونظراً لأهمية الموضوع فهو محل ترقب ومتابعة من قبل عامة المواطنين فأني رأيت ضرورة الوقوف عند تلك التصريحات وتناولها بالدراسة والتحليل بكل مهنية وحيادية ومن واقع أرقام وبيانات رسمية وفي إطار القوانين والتشريعات المالية ذات العلاقة للحكم على مدى واقعيتها من عدمها أي هل قابلة للتطبيق في ظل الأوضاع المالية والظروف الراهنة التي تعيشها البلاد اليوم وما هي أثارها وتداعياتها المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد؟.
ومن خلال دراستنا وتحليلنا لتلك التصريحات فإنه يمكن لنا القول بل الجزم بإنها جاءت مغايرة وبعيدة عن الواقع وتفتقر للدقة والوضوح ولا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تخفي أو تغير من حقيقة الأوضاع المالية المتأزمة للدولة جراء تدهور الناتج المحلي للبلاد وتفاقم الدين العام وتنامي العجز في الميزانية وميزان المدفوعات فضلاً عن الهبوط الحاد في الإيرادات العامة وإرتفاع معدلات التضخم والبطالة وإنهيار الخدمات الأساسية إلى جانب التشوه الكبير في الإنفاق العام بعد أن طغى الإنفاق الاستهلاكي على معظم أبوابه إن لم نقل جلها.

هذا ويمكن لنا إيجاز أهم ماتم ملاحظته في الأتي:
1- ذكر السيد الوزير أن هناك فائض في الإيرادات النفطية خلال عامي 2018 و2019، بقيمة 6 مليار دينار. والحقيقة أن هذا المبلغ يمثل فائض في قيمة الإيرادات النفطية المحصلة فعلياً عن القيمة المقدرة لها بالميزانية وليس فائضا في ميزانيتي  2018 أو 2019 حيث أن هاتين الميزانيتين سجلتا في مجملهما عجز مالي بقيمة 4.600 مليار دينار و11.895 مليار دينار على التوالي تم تغطيته بالمخالفة من خلال عوائد الرسم أو الضريبة على مبيعات النقد الأجنبي المخصصة أصلاً لإطفاء الدين العام وتمويل البرامج التنموية وليس لتمويل العجز وذلك وفقًا للقرار رقم 1300 لسنة 2018، بشأن فرض الرسم (مرفق صورة) و إذا ما سلمنا جدلاً بما قاله السيد الوزير ووضعنا قيمة الفائض في الإيرادات النفطية جانباً فإن إجمالي العجز خلال عامي 18 و19 يناهز  ال22.495 مليار دينار وليس 16,495 مليار دينار.

وفي المقابل لم يتطرق السيد الوزير إلى الإيرادات السيادية المحصلة خلال العامين 2018 و2019, والتي تقل كثيراً عن القيمة المقدر لها بالميزانية وتوضيح أسباب ذلك سيما وأن جباية هذه الإيرادات إحدى أهم و أبرز مهام الوزارة، ففي العام 2018 بلغت القيمة المقدرة لها بالميزانية 5.600 مليار دينار، في حين بلغت القيمة المحصلة منها 2.372 مليار دينار فقط أي بعجز قدره 3.228 مليار دينار، كما بلغت القيمة المقدرة لهذه الإيرادات للعام 2019، 4.600 مليار دينار في حين بلغت القيمة المحصلة منها 2.524 مليار دينار فقط وبعجز أيضاً قدره 2.076 مليار دينار. (مرفق صورة من بياني المركزي عن عامي 18 و19).

وبما أن حصيلة الإيرادات السيادية من ضرائب وجمارك ورسوم خدمات وفوائض الشركات العامة وبواقي أرصدة القطاعات تعتبر مؤشر لقياس مدى قدرة وكفاءة أداء وزارة المالية في جبايتها للإيرادات وتحصيلها للديون فإن نسبة هذه الإيرادات لا تتجاوز وللأسف 0/04 من إجمالي الإيرادات كما لا تتجاوز مساهمتها في تمويل الميزانية ما نسبته 0/03 و هذه نسب خجولة و ضعيفة جداً.

2- ذكر السيد الوزير إنه تحقق فائض في إيرادت الرسم على مبيعات النقد الأجنبي بقيمة 7.5 مليار دينار خلال عامي 2018  و2019. والحقيقة هذا المبلغ يفترض تخصيصه لإطفاء الدين العام المصرفي وفقاً القرار المشار إليه وهذا ما يقتضيه المنطق فطالما هذا الدين في تزايد بعد أن ناهز من 80 مليار دينار بإعتراف الوزير نفسه والإيرادات العامة شبه معدومة حيث لا تتجاوز حصيلتها هذا العام حتى نهاية أغسطس الماضي ما قيمته 3.762 مليار دينار فقط فالأولوية تبقى لإطفاء هذا الدين لإن بالتأكيد المركزي لن يستطيع الاستمرار في التمويل إلى ما لا نهاية فإحتياطياته في النهاية محدودة.

3- ذكر السيد الوزير أنه تم ترشيد الإنفاق خلال العام الحالي في بند المرتبات بما قيمته 3 مليار دينار. وفي رأيي هذا الكلام غير دقيق لأسباب عدة فأولاً السنة المالية لم تنتهي بعد حتى نقف على حقيقة هذا الوفر، كما أن هذا الوفر يرجع أساساً لقرار الرئاسي بشأن تخفيض ما نسبته 0/020 من مرتبات فئات معينة من العاملين ببعض الجهات وهذا القرار اليوم محل طعن أمام القضاء الإداري الذي قرر مؤخراً إيقاف تنفيذه إلى حين الفصل بالموضوع، كما إني أتحفظ على مصطلح الترشيد فالتشريد في الإنفاق يعني في الغالب الإنفاق في الأوجه والأغراض التنموية وبما ينعكس إيجاباً في تحسين مستوى الخدمات في حين ما أنفق جله استهلاكي فالمبالغ التي أنفقت على التنمية خلال هذا العام حتى أغسطس الماضي لا تتجاوز 600 مليون دينار من إنفاق إجمالي يناهز من 24 مليار دينار.

4- ذكر السيد الوزير أن هناك فائض في الرسم المفروض على مبيعات النقد الأجنبي يصل إلى 14 مليار دينار مع نهاية هذا العام وفق لبيان المركزي. وفي الحقيقة هذا الكلام أيضاً غير دقيق فإيرادات الرسم وفق للتفاهمات التي تمت بين الرئاسي والمركزي في مارس الماضي بشأن الترتيبات المالية 2020، والتي أخدت في الاعتبار توقف إنتاج وتصدير النفط تقضي بأن تقوم الحكومة بتخصيص الجزء الأكبر من هذه الإيرادات لإطفاء الدين العام المصرفي والجزء الأخر لتمويل البرامج التنموية وفي مقابل ذلك يقوم المركزي بتمويل العجز بالترتيبات المالية المعتمدة والمقدر بقيمة 26.707400 مليار دينار، وهذا ما يتم العمل به حتى يومنا هذا أي تنفيذ البند الرابع من محضر الإصلاحات الاقتصادية (مرفق صورة) فقيمة إيرادات الرسم لهذا العام حتى أغسطس الماضي بلغت 14.200 مليار دينار خصص منها 12.800 مليار دينار لإطفاء الدين العام المصرفي والجزء المتبقي أي 1.400 مليار دينار خصص للبرامج التنموية في حين بلغت قيمة قرض المركزي المسيل لوزارة المالية لتمويل العجز 17.804 مليار دينار وبما نسبته 8/12 من قيمة إجمالي العجز أو القرض وهذه التفاهمات تعزز ما يعرف بضمان استدامة التمويل في ظل توقف النفط ولا يجوز للسيد الوزير التنصل منها أو الإنقلاب عليها.

5- أشار السيد الوزير إلى أن قرارات الإصلاح الاقتصادي خفضت أثار التضخم وسعر الدولار وحققت فائضاً مالياً. وفي الحقيقة هذا الكلام غير دقيق إطلاقاً ولا وجود له اليوم  فما يسمى ببرنامج الإصلاح الاقتصادي لم يكن برنامجا للإصلاح بل كان مجرد ضريبة مجحفة فقط فرضت على المواطنين بشكل غير مباشر ولم تتخد الحكومة ولا وزارة المالية أي إجراءات بشأن حزمة الإصلاحات المرافقة لها، واليوم يدفع المواطنين وحدهم تداعيات الإصلاح المزعوم جراء ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة الدينار وشُح السيولة وتراجع إحتياطي الأجنبي و تأكل المخدرات.

6- ذكر السيد الوزير أن الدين العام لا يقتصر على دين المركزي (80) مليار دينار بل بشمل أي إلتزام على الحكومة وأهمها المرتبات المتأخرة. وهنا اتفق معه بالخصوص ولكن يجب تذكيره أيضاً بالدِّين الذي رتبته الحكومة المؤقتة في شرق البلاد الذي قد يناهز 55 مليار دينار، بالإضافة إلى فاتورة إعمار ما دمرته الحروب.

7- ذكر السيد الوزير أن الأولوية في سداد الدين العام للمرتبات المتأخرة والإفراجات للمعينين منذ مدة دون مرتبات. وفي الوقت الذي أوكد فيه على أحقية المواطنين في مطالبهم العادلة والمشروعة وفي صرف كافة مرتباتهم والتي تكفلها لهم القوانين والتشريعات النافذة، فأني أختلف مع ما تفضل به السيد الوزير في الآلية، فمالياً إعطاء الأولوية في سداد الدين العام للإلتزامات المالية القائمة قبل الدين المصرفي في ظل تفاقم هذا الدين والهبوط الحاد في الإيرادات العامة وانعدام مصادر التمويل الأخرى باعتبار ذلك حتما سيعجل بإفلاس الدولة وإنهيار خط دفاعها الأخير خاصةً في ظل حالة عدم اليقين التي تغيم على المشهد السياسي والتي لا يستطيع أحد التنبوء بنهايتها، فاحتياطي المركزي اليوم محدود بعد أن خسر قرابة أكثر من ثلثي قيمته التي سجلها في بداية 2012، أما اقتصادياً فبالتأكيد سداد تلك الإلتزامات سيؤدي إلى زيادة المعروض النقدي بشقيه وزيادة الطلب على الاستهلاك ومن ثم إرتفاع أكثر لمعدلات التضخم و سعر الدولار تفاقم أكثر لأزمة السيولة.

عليه وبناءً على ما تقدم فإنه يمكن لنا استخلاص الأتي:

1- أن السيد وزير المالية يبدو لا يولي أهمية لتفاقم الدين العام و خطورته على الأوضاع المالية الدولة وعلى مستقبل الأجيال القادمة كما يبدو أنه في حل من مقرارات ما يسمى ببرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يتباهى به والذي يتوجب منح الأولوية لإطفاء الدين المصرفي من عوائد الرسم (الضريبة).

2- أنه ليس لديه أي رؤية أو استراتيجية لجدولة الدين واستهلاكه.

3- أنه ربما لا يعلم أن نسبة حجم هذا الدين بشقيه (المصرفي والإلتزامات) إلى الناتج المحلي للبلاد قد تصل إلى قرابة عشرة أضعافه والسؤال هو كم نسبة دين عام لبنان المنهار اقتصادياً إلى ناتجه المحلي؟

4- إن السيد الوزير ربما لا يعلم أيضاً أن الحكومة المصرية تخصص سنوياً قرابة 0/050 من إيراداتها العامة لاستهلاك  أقساط الدينين والفوائد.

لكن في الختام يبقى الأهم من كل ذلك هو التذكير بأن القوانين والتشريعات المالية النافذة كالقانون المالي للدولة وقوانين الميزانية والقانون رقم رقم 15 لسنة 1986 وقانون المصارف جميعها تحظر نشأة الديون إلا بقانون فما بالك بتفاقمها وبلوغها معدلات قياسية لربما الأكبر في العلم.