“حبارات” يكتب: سيناريوهات توحيد سعر الصرف وتداعياته على الاقتصاد في حال ما تم إقراره

555

كتب: الخبير الاقتصادي “نور الدين حبارات”

تناولت الأسبوع الماضي موضوع توحيد سعر الصرف وخلصت في نهاية المقال إلى إنه مطلب عادل باعتبار ذلك يحد من السوق الموازي و من الفساد ويرسئ قيم ومبادئ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص أمام جميع المواطنين في حصولهم على النقد الأجنبي، لكن وفي نفس الوقت أعتبرت ذلك ليس بالأمر الهين كما يتصور الكثيرين في ظل عدم كفاية رصيد الاحتياطي الأجنبي ودون أن يرافقه إجراءات لمعالجة التشوهات بالميزانية العامة و ميزان المدفوعات خاصةً و إن الظروف والمؤشرات اليوم أسواء عما كانت عليه في 2018 م.

واليوم سأتطرق للسيناريو الذي يمكن إتباعه وتداعياته على الاقتصاد في حال ما تم إقرار توحيد سعر الصرف، فليبيا كما هو معروف دولة نامية وريعية مستهلكة غير مصدرة وغير منتجة وليس لديها حتى اكتفاء ذاتي وتعتمد بشكل شبه كامل على مصدر وحيد في تمويل ميزانيتها وفي توفير كافة احتياجاتها وهو النفط حيث شكلت مساهمة هذا المصدر على مدار السنوات الماضية ما نسبته 0/095 في تمويل ميزانياتها قبل أن تتراجع هذه النسبة خلال العامي 2019 و 2020 م إلى 0/070 و 0/006 على التوالي بسبب تفاقم الإنفاق العام من ناحية و توقف التصدير من ناحية أخرى.

وفيما يلي نستعرض السيناريوهات الممكن إتباعها في توحيد سعر وتداعياتها على الإقتصاد في حال ما تم إقراره:

السيناريو الأول توحيد سعر الصرف من خلال التعويم الكامل أو الحر أي يتم تحديد السعر من خلال قوى الطلب والعرض في السوق، ففي ظل هذا السيناريو يتخلى المركزي كليا عن القيود التي عادةً ما يفرضها للحد من استخدامات النقد الأجنبي وعدم تدخله وبالطبع تطبيق هذا السيناريو غير ممكن بتاتاً في ظل عدم وجود مصادر أخرى متنوعة مستدامة للنقد الأجنبي والاعتماد فقط على مصدر وحيد متقلب ومحدود فضلاً عن وجود معروض نقدي كبير جداً بشقيه “داخل النظام المصرفي و خارجه” يقدر ب 109 مليار دينار في مقابل احتياطي نقد أجنبي محدود يعاني عجوزات متراكمة.

السيناريو الثاني توحيد سعر الصرف وتحديده من خلال التعويم المنظم أو المرن أي يحدد السعر أيضاً ومبدئياً وفق لآلية الطلب والعرض في السوق ويتدخل المركزي فقط عند أسعار معينة يراها مناسبة ومن الأمثلة على هذا النوع الحالة المصرية ويعتبر هذا السيناريو أقل صعوبة من السيناريو الأول لكن يتطلب تأمين مخزون كافي من النقد الأجنبي كي يستطيع المركزي من خلاله التدخل بهدف استقرار السعر عند معدلات معينة، وصراحةً نجحت الحكومة المصرية ولحداً ما في تطبيق هذا البرنامج نتيجة توسعها في الإقتراض الخارجي إلى إن ناهز الدين الخارجي حتى نهاية يونيو الماضي 120 مليار دولار وفق لبيانات عن صندوق النقد الدولي مع اعتمادها لإستراتيجية جيدة لجدولته واستهلاكه وفي المقابل انعكس هذا التعويم إيجاباً في إستقرار معدلات التضخم وزيادة تدفق الاسثتمارات الأجنبية و تحويلات المصريين بالخارج وتنشيط قطاعي السياحة والتصدير، وللأسف جميع هذه الخصائص أو الميزات غير متوفرة إطلاقاً في بلادنا ومن تمة هذا السيناريو لايصلح أيضاً لإقراره و تطبيقه في الاقتصاد الليبي.

السيناريو الثالث هو ثتبيت سعر الصرف أي ربط الدينار بالدولار وبباقي العملات الأجنبية من خلال المركزي وهذا ما هو مطبق حالياً في دول الخليج وكانت ليبيا في السابق من ضمنهم، حيث تري تلك الدول ثنبيت سعر الصرف قاعدة وركيزة مهمة وأساسية للاستقرار النقدي والمالي في ظل متانة احتياطياتها من النقد الأجنبي المدعومة من تدفق الإيرادات النفطية وأيضاً في قدرتها على سداد إلتزاماتها الخارجية وتلبية متطلبات الاقتصاد الوطني من العملات الأجنبية، وعلى الرغم من صعوبة توحيد سعر صرف الدينار وفق لألية الثتبيت في بلادنا في ظل الظروف الحالية فأنه يبقى السيناريو والخيار الوحيد.

هذا و يتم عادةً توحيد سعر الصرف وفق لهذه الآلية من خلال البنوك المركزية ولكن هذا الأمر يبدو متعذر في ليبيا في ظل انقسام مجلس إدارة المركزي ما يعني إسند هذه المهمة للرئاسي رغم ما يعتريها من تحفظات قانونية.

وقبل الخوض في تداعيات توحيد سعر الصرف على الاقتصاد وفق لألية الثنبيت يجب التذكير و التسليم بالآتي:

– توحيد الصرف يعني إعتماد سعر واحد لكافة التعاملات سواء كانت للحكومة أو للأفراد بما فيها فاتورة المرتبات و الدعم و مخصصات أرباب الأسر.

– توحيد سعر الصرف يعني ضمنياً رفع لدعم الوقود و الكهرباء و الأدوية و المياه

– توحيد سعر الصرف وفق لهذه الألية يعني لا وجود لضريبة المبيعات على النقد الأجنبي و تخصيص عائداتها لإطفاء الدين العام .

– توحيد سعر الصرف في هذه الحالة سيعني لنا مزيد من التخفيض في قيمة الدينار .

– و لتوضيح ذلك نستعرض المثال التالي .

– بلغت قيمة الترتيبات المالية المعتمدة ( الميزانية ) لحكومة الوفاق للعام الحالي 2020 م 38،5 مليار دينار في حين تقدر ميزانية الحكومة المؤقتة ب 11 مليار دينار ، حيث تتضمنت ميزانية حكومة الوفاق ما قيمته 5.600 مليار دينار لفاتورة باب الدعم و مبلغ .5.000 مليار دينار لباب الطوارئ و مبلغ 2.100 مليار دينار لباب التنمية و مبلغ 4.000 مليار دينار لباب التسيير و مبلغ 21.800 مليار دينار لباب المرتبات و إذا ما أفترضنا إن سعر الصرف الموحد تم تثبيته على 4.25 دينار للدولار و هذا متوقع بإعتبار إن سعر 3.90 دينار للدولار لم يعد مناسب في ظل الظروف الراهنة فإن هذا يعني تضخم فاتورة باب الدعم المقدرة ب 5.600 مليار دينار أي ما يعادل 4.179 مليار دولار حيث ستقدر قيمتها وفق للسعر الموحد و المفترض ب 17.761 مليار دينار كما إن نفقات باب الطوارئ المقدرة ب 5.000 مليار دينار أي ما يعادل 3.731 مليار دولار ستقدر قيمتها وفق السعر الموحد 12.686 مليار دينار بإعتبار إن ما نسبته 0/080 فقط من هذه النفقات يتم دفعه بالدولار و كذلك فيما يخص نفقات التسيير التي ستقدر ب 9.514 مليار دينار في حين ستقدر نفقات باب التنمية ب 5.328 مليار دينار ، و اذا ما أضفنا لها قيمة المرتبات المقدرة ب 21.800 مليار دينار بإعتبارها لن ثتاثر شكلياً بالسعر الموحد و يضاف إليها مبلغ 11 مليار دينار قيمة الميزانية المقدرة من قبل الحكومة المؤقتة.

– عليه فإننا نجد أنفسنا أمام ميزانية ضخمة موحدة تناهز من 78 مليار دينار تتطلب إيرادات نفطية بقيمة 18 مليار دولار على أقل تقدير .

– عليه و بناءاً على ما تقدم يمكن لنا سرد التداعيات السلبية لتوحيد سعر الصرف على الاقتصاد في الأتي –

1_ تضخم ظاهري لحجم الإنفاق العام

2_ارتفاع معدلات التضخم و تأكل دخول المواطنين و مدخراتهم جراء المزيد لإنخفاض القدرة الشرائية للمواطنين مما يعيد إحياء المطالب بزيادة المرتبات للعاملين بالقطاع العام، هذا الإجراء سيقف عائق امام قانون توحيد المرتبات و زيادتها لعدم توفر الموارد

3_ تشجيع أعمال التهريب لدول الجوار فهذا الإجراء سيؤدي مزيد من الانخفاض لقيمة الدينار امام عملات دول الجوار.

4_ مزيد من الإرتفاع في أسعار السلع والخدمات التي تقدمها الدولة خاصةً فيما يتعلق النقل و الاتصالات و الكهرباء والوقود والإسمنت و الحديد و غيرها.

5_ ارتفاع تكلفة خدمات الصحة والتعليم في القطاع الخاص ما سيؤدي إلى مزيد من الإرهاق لكنها المواطنين وتفاقم لمعاناتهم في ظل تردي خدمات القطاع العام و إرتفاع نفقات السفر والعلاج بالخارج.

6_ تعطل أعمال التنمية وبرامج إعادة الإعمار و إصلاح البنى التحتية المتهالكة و تفاقم البطالة لعدم توفر الموارد المالية اللازمة لذلك.

7_ كما سيكون لهذا الإجراء آثار وتداعيات سلبية أيضاً على مؤشرات التضخم والدين العام والمعروض النقدي والناتج المحلي والإحتياطي الأجنبي بالإضافة إلى تداعيات غير منظورة تظهر في حينها.

وفي المقابل قد ينتج عن هذا الإجراء آثار إيجابية مؤقتة ثتمتل في إنخفاض نسبي في معدلات التضخم قياساً بما هي عليه اليوم و تخفيف جزئي لأزمة السيولة

وأخيراً فإن توحيد سعر الصرف يبدو فعلأً مسألة صعبة غاية في التعقيد تتطلب خطط إستراتيجيات و شغل و تضحيات من الحكومة والشعب و حزمة من الإصلاحات المرافقة على كافة المسارات بما فيها مكافحة الفساد وإلتزام كامل بتنفيذها، فضلاً عن إستقرار عام و مؤسسات موحدة على أن تسبقه دراسات معمقة مستفيضة بالأرقام والتحليل والاستنتاج لاتجاهات هذه التجربة في السابق وأخذاً في الاعتبار تجارب الأخرين فليبيا جزء من العالم وليس بمعزل عنه، وبالتأكيد ليس مسألة توحيد سعر الصرف مجرد كلام يقال عبر وسائل الإعلام.

لكن يبقى الشيء الذي يجب علينا الاعتراف والإقرار به هو إن مخلفات و تراكمات لسياسات متهورة و إرتجالية على مدار تسع سنوات لا يمكن أبداً معالجتها أو حتى التفكير في معالجتها بين ليلة و ضحاها.