منصور الهمالي يكتب مقالاً بعنوان “الاقتصاد الليبي بين المنظور الاستراتيجي الغائب والقرار السياسي القاصر”

192

كتب “منصور الهمالي” مقالاً بعنوان “الاقتصاد الليبي بين المنظور الإستراتيجي الغائب و القرار السياسي القاصر”.

لا يخفى على أحد من المختصين بل وحتى غيرهم ما يعانيه الإقتصاد الليبي من ترهل و تفكك في أوصاله نتيجة لجملة من الأسباب المتراكمة أدت لهذا الوضع الراهن  لعل أهمها التوجه الإشتراكي الذي تبنته الدولة لعقود من الزمن و أثبت فشله و عجزها لاحقاً في تنفيذ طموحها في خلق اقتصاد متنوع يتسم بالقوة و قادر على الإستدامة بالرغم من محاولاتها المتكررة إزاء ذلك , و لعل الأمر إزداد سوءً بعد مرور هذا الاقتصاد الجريح أصلاً بحصار خانق إبان فترة التسعينات جعله يحتضر و يكافح من أجل الإحتفاظ بسمات البقاء الأساسية , حيث أثر هذا الحصار سلباً على مخرجاته و جعله ملتزما جبراً بالضروريات في الإنفاق , و هذا ما يفسره قانون الميزانية التسييرية للدولة لسنة 2003 م و المقدرة بحوالي (3.5) مليار دينار ما يعكس صعوبة الاوضاع المالية في تلك الفترة و يعطي انطباعا مقبولاً علي تكيف الميزانية1 مع الأوضاع الإقتصادية السائده في تلك الأثناء  .

و بانقضاء فترة التسعينات حالكة السواد و رفع العقوبات الدولية سنة 2003 م  و الأمريكية في السنة التي تليها , سعى القائمين على إدارة دفة الإقتصاد لتحريك العجله و الدفع بها إلى الأمام فى محاولة لتبني و تطبيق إصلاحات اقتصادية تحمل في مضمونها رؤية إستراتيجية تهدف إلى تفعيل دور القطاع الخاص و إنحسار دور الدولة في محاولة غير صريحة للتخلى عن الإشتراكية , فقامت بتخفيض أسعار الفائدة لتشجيع الطلب على القروض من قبل الخواص و شجعت الاستثمار المحلى و الأجنبي و قامت بتحديث و سن بعض القوانين و ألغت الإمتيازات الجمركية للمؤسسات العامة علاوة على تخفيض الضرائب على الواردات الى جانب برامج توسيع قاعدة الملكية   .

أسفرت هذه التغيرات عن بعض التحسن فى بداية الألفية الجديدة لاسيما بعد رفع العقوبات و ذلك على صعيد الإيرادات صاحبته أريحية أكبر في المناورة  لتحريك عجلة الإقتصاد , إلا أنها لم تشهد تغيراً جذرياً في السمات التي كان ينبغي لها أن تتبدل مثل تنوع مصادر الدخل و زيادة القدرة على الإنتاج و النأي به عن الإعتماد و بشكل مفرط على الإيرادات النفطية و التي تشكل ما يقارب 94% من إيرادات النقد الأجنبي ما جعلة إقتصاداً ريعياً يعتمد على ثروة ناضبة لن تستمر إلى مالا نهاية .

و بالتطرق إلى مسببات تفاقم الأزمة لا بد من التعريج على عجز الدولة و لسنوات طويلة في تفعيل دور المورد البشري في تحريك العجلة و الدفع بها إلى الأمام , بل على العكس من ذلك مارست الدوله أدواراً خاطئةً جعلت من مواطنيها مصابين بالشلل التام و يعتمدون على الدوله بشكل شبه كامل في الحصول على أقواتهم  إلى أن أصبحت هذه الممارسات ثقافة واسعة الإنتشار يصعب تغييرها بين سنة و أخرى.

إتسمت نهاية العقد الأول من الألفية بشئ من الإنتعاش نتيجة للتغيرات المنوه عنها إلى جانب تحسن أسعار النفط العالمية نتج عنه إعتماد قانون الميزانيه لسنة 2010 م  بما يقدر بحوالي (57.5 ) مليار دينار قسمت إلى أبواب خمسة شكلت منها  المرتبات و ما في حكمها ( الباب الأول )  ما يقدر بحوالي 15% و مشروعات و برامج التنمية ( الباب الثالث ) 50% و مخصص الدعم ( الباب الرابع ) 15% و يلاحظ انخفاض نسبة الإنفاق على الباب الأول و هو شئ مطلوب كما يلاحظ ارتفاع نسبة الإنفاق على الباب الثالث و هو مطلوب ايضاً و يعطي مؤشرا جيداً على توزيع النفقات العامة , إلا أننا نلاحظ تمسك الدوله بالمضي قدماً في تبني سياسة الدعم التي تؤثر بشكل سلبي على مقدرات الدولة و تسهم في ترسيخ مفهوم الدولة المانحة و الراعية و تقطع الطريق أمام محاولة التغيير في الثقافة السائدة و التى عنوانها السلبية المقيتة و الفهم المغلوط لمعنى المواطنة على أنه حقوق فقط و ليس للواجبات فيه  مكان .

و بالرغم من هذا التحسن الشكلي في ميزانية الدولة لسنة 2010 م إلا أنها لم تشهد تغيراً جوهرياً في أحد مكوناتها الأساسية و الذي يمثل جانب الموارد , حيث مثلت الإيرادات النفطيه ما نسبته 88% من إجمالي موارد الميزانية و أن حوالي 12% يمثل الموارد السيادية و المحلية , و الجدير بالقول أن نسبه كبيره من هذه الأخيرة تعتبر صوره أخرى للموارد النفطية تولدت نتيجة لضخ الإيرادات النفطية في الإنفاق العام.

و في سياق متصل و من خلال الإطلاع على التقارير المالية التي تلخص إيرادات ونفقات الدولة للسنوات من 2012 – 2017  م يتبين أن إجمالى ما تم تحقيقيه من إيرادات فعلية خلال هذه السنوات  قدرت بحوالي (189) مليار دينار و أن الإنفاق الفعلي لنفس الفترة  قدر بحوالي (256) مليار دينار و بعجز متراكم وصل إلى حوالي ( 67) مليار دينار ,  هذا بخلاف نفقات الحكومة المؤقتة بالبيضاء منذ بداية اعمالها و حتى نهاية سنة 2017 م  , و هذا في اعتقادي مرده إلى  سببين رئيسين أولهما الإنخفاض الحاد في الإيرادات نتيجه لإقفال الحقول و المواني النفطية و الثاني إهمال الحكومة و غضها الطرف عن هذا السبب الأول و قيامها بالتوسع في الإنفاق و بوتيرة مستمرة حيث وصل العجز في سنة 2015 وحدها ما يقارب ( 25 ) مليار كون أن الإيرادات لم تتجاوز ( 11 ) مليار في ذات العام في حين أنفقت الحكومة ما يقارب ( 36 ) مليار دينار , الأمر الذي يطرح تساؤلاً و بخط عريض عن غياب القرار الإقتصادي السليم المبني على أسس واقعية يحكمها المنطق و يدعمها الفكر المتخصص و الذي ما كان له أن يتغيب نظراً لحساسية الموقف .

و من المؤكد أن التوسع الغير مبرر في الإنفاق وسعي الحكومات الغير رشيدة لتوفير التغطية اللازمة لتنفيذ هذه الميزانيات و التي ما كان ينبغي لها أن تقر حتي في الظروف العادية،  أدى إلي تداعيات أخري خطيرة أهمها إستنزاف مقدرات الدولة و تنامي الدين العام و الذي وصل في نهاية سنة 2017 إلى ما يقارب ( 58  ) مليار دينار ,  إلى جانب الإستخدام المفرط من النقد الأجنبي و إنخفاض الإحتياطيات حيث بلغ إجمالي ما تم استخدامه لنفس الفترة ما يقدر بحوالى ( 173.5) مليار دولار في ظل إيرادات قدرت بحوالى ( 136 ) مليار دولار , حيث وصل العجز في سنة 2015 وحدها ما يقارب ( 23 ) مليار دولار  .

و لعل المتتبع للشأن الإقتصادي بشكل عام و الليبي بشكل خاص يقف عاجزاً أمام إقتراح ما من شأنه أن يحدث نقلة طموحة توافق تطلعات الجميع لاسيما في ظل الكثير من التعقيدات المتأصلة و الموغلة فى القدم و تشريعات تتسم بالجمود و عدم نضج القطاع الخاص المعول عليه في لعب دور أكبر مستقبلاً .

و لاشك أن ما بتنا نراه اليوم من تشوه كبير في ميزانية الدوله و خلل جسيم في إدارة مواردها الإقتصادية لاسيما في ظل هذه الظروف، ما هو إلا نتاج لعلو كعب القرار السياسي القاصر و قهره وطمسه لصوت العقل الإقتصادي الذي يتبنى منهج الواقعية و يبتعد عن منهج التضليل المغشوش الذي عنوانه الإستقرار المزيف و الذي يخفي وراءه ملامح الإنهيار الوشيك , فمن يمتهن السياسة وهو قاصر عن فهمها لا يتجاوز نظره خطى أقدامه و أقصى طموح له هو  البقاء في كرسيه الذي يتربع عليه فوق نعش اقتصاد بلاده , أما من يمتهن الإقتصاد فإنه من المفترض أن يرى و يفكر و يخطط ليصل إلى بر الأمان حتى و إن ربط حجراً على بطنه .

فليس من المنطق أن ننفق ما نسبته 95% من مواردنا المحملة بالإلتزامات أصلاً في الإنفاق التسييري و أن نرفع فاتورة المرتبات إلى ما يناهز ( 26) مليار دينار و أن نستغني عن التنمية و أن نرفع شعار الإصلاح و نحن نمارس الفساد و ندافع عمن يتربع على عرشه .

و ختاماً , فلا مناص من ترك الخبز لخبازه، على أن يقوم بالعمل على إيجاد هوية واضحة المعالم لاقتصاد الدولة و فق منظور إستراتيجي يحدد ملامحه المستقبلية و يشهد  في مضمونه إنحساراً لدور الدوله في الإنفاق  ويجعلها تعتكف على تطوير البيئة التشريعية و التنظيمية بما يكفل تحديد المسؤليات و توزيع الأدوار بشكل تكاملي بين كل المكونات الإقتصادية و يحفظ الحقوق  و يفسح المجال أمام القطاع الخاص و الذي ينبغي له أن يعظم دوره و يطور من قدراته  ليصبح ناضجاً بما يكفي ليسهم بشكل فعال في عملية البناء الإقتصادي و يعزز القدره على الإستدامة  .