حبارات يكتب : هل يمكن معالجة أزمة السيولة من خلال بيع النقد الأجنبي ؟ و إقتصادياً ماذا يعني لنا هذا الإجراء و ما هي تداعياته على الإقتصاد الوطني ؟

288

كتب : المهتم بشأن الاقتصادي نورالدين حبارات مقالا

يرى البعض بل الكثيرين بما فيهم المركزي إن بيع النقد الأجنبي لكافة الأغراض بعد تخفيض قيمة الدينار في إطار توحيد سعر الصرف و رفع كافة القيود بإنه سيؤدي إلى معالجة أو حل أزمة السيولة المزمنة و المعقدة التي تشهدها البلاد منذ نهاية 2015 م .

و قبل الخوض في الإجابة على هذا السؤال يجب علينا التفرقة بين مصطلحين أساسيين و هما مصطلح علاج الأزمة و مصطلح التخفيف من حدتها .

فمصطلح علاج الأزمة يعني لنا إنتهاء أزمة السيولة و عدم وجودها و إختفاء كافة مظاهرها و أثارها أي العودة إلى ما قبل تاريخ إندلاعها ،أما مصطلح التخفيف من حدة الأزمة فيعني لنا بقاءها مع إستمرار مظاهرها و لكن بوتيرة أخف و المثمثلة في رفع سقف السحب و تقارب مواعيده و تقلص الطوابير أمام المصارف .و لكن إقتصادياً و عملياً فإن ما يراه البعض أو الكثيرين غير صحيح و إن كل ما يحدث أو سيحدث هو تخفيف لحدة الأزمة و لفترة مؤقتة و ذلك لأسباب عدة لعل أبرزها .

1- إجراء ( معالجة) السيولة وفق لنظرة المركزي مرهون بإستمراره في بيع النقد الأجنبي دون قيود و إستمرار هذا الإجراء من عدمه يخضع لإعتبارات عدة أهمها إنتظام تدفق إيرادات النفط دون توقف و بكميات أكبر و بأسعار مرتفعة نسبياً على ما هي عليه الْيَوم ، و هذا الأمر ليس بالهين في ظل حالة عدم اليقين التي تغيم على المشهد السياسي و تقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية خاصةً مع بقاء خطر جائحة كورونا قائم و إحتمالية إنزلاق الإقتصاد العالمي مجدداً في مستنقع الركود ، فضلاً عن إن الأسعار سثتأثر سلباً مع سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة إزاء إحتمالية رفع العقوبات على إيران و فنزويلا العضوين البارزين بمنظمة الأوبك و إحتمالية تجميد تحالف أوبك و روسيا لسياسة تخفيض سقف الإنتاج لدعم الأسعار أو حتى إحتمال ضم ليبيا لهذه السياسة في حال إستمرارها و إلغاء الإسثتناء الممنوح لها .

2- تضخم الحسابات الجارية لدى المصارف و التي تجاوزت حاجز 71 مليار دينار حتى نهاية مايو الماضي و أغلب هذه الأرصدة تعود للتجار ناهيك عن أرصدة الحسابات الجارية لدى المصارف الخاضعة لإشراف مركزي البيضاء .

و عليه قإن عمليات فتح الإعتمادات المستندية في الغالب ستتم أولاً من خلال الخصم من تلك الحسابات و ليس من خلال الكاش في حين يقتصر التعامل بالكاش أغلبه على المعاملات المتعلقة بالأغراض الشخصية.

3- إرتفاع حجم الإنفاق العام لهذا العام و الذي قد يناهز 75 مليار دينار ‎%‎50 منه يتعلق بالمرتبات و علاوة الأبناء في حال ماتم صرفها ما يعني إن المصارف ملزمة بتوفير سيولة شهرياً بقيمة 2 مليار دينار على أقل تقدير دون إحتساب قيمة المعاشات الاساسية و الضمانية الشهرية و مرتبات العاملين بالجهات غير الممولة من الميزانية العامة .

و السؤال هو كيف و من أين للمصارف أن توفر مبلغ شهرياً بهذا الحجم ؟

4- تجربة ما يسمى بالإصلاح الإقتصادي خلال العام 2019 م أثبتت و بما لا يدع مجال للشك إن أزمة السيولة لا يمكن حلها أو معالجتها و ما حدث كان تخفيف لحدتها فقط رغم أن المركزي حينها ضخ قرابة 8 مليار دولار في شكل إعتمادات مستندية و مبلغ 7.912 مليار دولار في شكل أرباب آسر و مبلغ 2.156 مليار دولار للأغراض الشخصية و قرابة 7 مليار دولار تحويلات للحكومة إلى أن سجل ميزان المدفوعات عجز يقارب من 2 مليار دولار ، و مع ذلك أستمرت مظاهر الأزمة بوتيرة أقل و تقلص الفرق بين الكاش و الصكوك ألى ما بين 25 و 50 قرش في الغالب ، و اذا كان المعروض النقدي خارج النظام المصرفي في نهاية 2018 قرابة 34.827 مليار دينار فإن مع نهاية 2019 م تزايد إلى 36.691 مليار و بمجرد توقف النفط في منتصف يناير 2020 م عادت الأزمة مجدداً مباشرةً إلى أن بلغت دروتها خلال ديسمبر الماضي حيث وصل الفرق بين الكاش و الصكوك إلى ما نسبته ‎%‎40 في حين وصل الفرق ما بين شراء الدولار نقداً أو شراءه بصك إلى ما بين دينار و دينار و نصف .

و أخيراً طالما إن المركزي لم يستخدم أدوات السياسة النقدية المختلفة و المعطلة أصلاً في تعامله مع هذه الأزمة بهدف إمتصاص الكتلة النقدية خارج المنظومة المصرفية و التي يقدر إجماليها ب 50 مليار دينار ( غرب البلاد و شرقها ) فإن إعتماده لبيع النقد الأجنبي كوسيلة وحيدة فقط لتوفير السيولة يبقى إجراء عبثي و متهور و مكلف جداً و له تداعيات كارثية على الإقتصاد يدفع تبعاته مستقبلاً المواطنين وحدهم دون غيرهم فهو يعني لنا الإسراع في إستنزاف إحتياطي البلاد من العملات الأجنبية الدولية الإحتياطية في سبيل توفير عملة محلية مؤقتاً خاصةً و إن معظم أو جل هذا النقد يوجه لأغراض إستهلاكية و ليس إنتاجية أو تنموية .

و حيث ما يقوم بِه المركزي و الحكومة الْيَوم ما هو إلا تصدير مجاني للنقد الأجنبي للخارج فإنه يجب علينا الإستعداد مستقبلاً لإستعادة ما تم تصديره مجاناً بتكلفة باهظة عبر قروض صندوق النقد و البنك الدوليين و ذلك في ظل محدودية إيرادات النفط و تراجع الإحتياطي الأجنبي للبلاد و تزايد الإنفاق العام ، لإن يجب علينا أن نعترف إن لُب الأزمة لدول تونس و مصر و السودان و لبنان و العراق و تركيا و إيران و فنزويلا و غيرها يكمن في إنخفاض قيمة عملاتها المحلية أمام الدولار الأمريكي بسبب إنخفاض إحتياطيات هذه الدول من النقد الأجنبي و تراجع إيراداتها العامة و أن السبيل لإيقاف إنهيارها لا يتم إلا من خلال قروض دولارية و بشروط مجحفة في شكل تحرير لقيمة عملاتها و رفع للدعم و فرض مزيداً من الضرائب و رسوم الخدمات و تسريح أو تقليص للعاملين بالقطاع العام و خصخصة بعض مشروعاته.