ليبيا والاقتصاد الريعي .. معضلة وحلول! “الجزء الثاني”

761

كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل

تناولت في الجزء الأول من المقال وبشئ من التفصيل مفهوم الريع ومصادره، وأنواع الاقتصاد الريعي، وفي قادم الأسطر سأتناول خصائص الاقتصاد الريعي للدول النفطية، مع اقتراح بعض الحلول لإخراج ليبيا من عباءة الاقتصاد الريعي.

خصائص الاقتصاد الريعي النفطي

كما كنت قد أشرت في الجزء السابق فإن من بين أشهر الاقتصادات الريعية في العالم هي الدول النفطية، واستنادا إلى ذلك يمكننا تلخيص خصائص الاقتصاد الريعي المعتمد على المصادر الهيدروكربونية المتمثلة في النفط والغاز في الآتي:
-1 اقتصاد متذبذب 
فالاقتصاد النفطي هو اقتصاد ريعي، وبما أن النفط يتميز بتذبذب أسعاره نتيجةً لأسباب سياسية وأخرى اقتصادية وثالثة مناخية، لذا فإن الاقتصاد المعتمد على النفط سيكون بالضرورة متذبذب خصوصاً في إيراداته ونفقاته وصادراته وواراداته وإنتاجه الاقتصادي واحتياطياته النقدية وغيرها، وفي كل الأحوال لا يمكن للحكومات الوطنية أن تحدد أسعاره أو حتى تثبيتها، لأن تسعير النفط يُحدده كبار المستهلكين لا كبار المنتجين.
-2 اقتصاد غير عادل
من المعروف أن النفط والغاز ثروة وطنية عامة للأجيال الحالية واللاحقة، وبالتالي لا يحق لأحد التصرف فيها وفقاً لمصالحه الخاصة لا حكومةً ولا أفراداً، ولكن في الواقع فإن الثروة النفطية في الدول المنتجة له مُحتكرة من طرف الحكومات الحالية ومن يرتبط بها، وهذا ما يؤدي حتماً إلى غياب العدالة بين أفراد الجيل الحالي من جهة، كما أن استمرار الاعتماد على النفط والغاز وعدم التفكير في إيجاد مصادر بديلة للإيرادات سيؤدي إلى نضوب النفط أو الغاز وبالتالي حرمان الأجيال اللاحقة من حقوقهم النفطية من جهة أخرى، وهذا ما يفسر سعى الحكومات المحموم لإنشاء صناديق ثروة سيادية تستثمر فيها جزء من عائداتها النفطية لصالح الأجيال القادمة.
اقتصاد عام ومركزي أو اقتصاد الدولة المركزية
السمة الغالبة في البلدان النفطية وخصوصاً النامية منها هو أن الاقتصاد فيها يكون تابع للدولة وهي المتحكمة فيه ، فتقوم الدولة بتصدير النفط، وتحويل العملات الأجنبية الناجمة عـن بيعه إلى المجتمع عبر نافذة الإنفاق العام، وخصوصاً الإنفاق الاستهلاكي غير المرشد أو ما يعرف بالإنفاق التشغيلي.
-4 اقتصاد الإقصاء

إن الاعتماد على النفط في تمويل الاقتصاد سيساهم في إقصاء باقي القطاعات، وسيؤدي إلى عدم الاهتمام بها طالما أن النفط هو المُلبي للاحتياجات المحلية، كما سيؤدي أيضاً إلى صعوبة جباية الإيرادات الضريبة، وفي المقابل فالريع سيؤدي إلى زيادة / التوسع في الإنفاق العام والإنفاق الاستهلاكي بحكم أنه مال عام، ويتضح ذلك بكل جلاء في إحصائيات مصرف ليبيا المركزي الرسمية عن الأعوام 2017 و2018 و2019 على سبيل المثال، حيث زاد الإنفاق من الباب الثاني من الميزانية بأكثر من نسبة 220% خلال هذه الأعوام، بالرغم من كل محاولات الترشيد في نفقات الباب الأول، وبدوري أتوجه بالنصح للسلطة التشريعية والهيئات الرقابية لأجل أن يقوموا بدورهم في تقنين وضبط مصروفات الميزانية العامة للدولة وبكل حزم، ابتداءً من العام الجاري على الأقل، ومن جانب آخر فطالما أن الدولة هي المُتحكمة (إقطاعية الدولة) فسيؤدي ذلك حتماً إلى إقصاء القطاع الخاص وتهميشه.

لعل من أبرز سمات الدول الريعية أن تكون شعوبها حانقة (غير راضية) على سياسات دولها، وقد تكون ناقمة عليها بسبب إنتشار البطالة، وعدم توافر فرص عمل للشباب، وهي مبررات واقعية إلى حد بعيد, فالحكومة وحدها هي من تجني ثمار تأجيرها أو بيعها لتلك الثروات والمقدرات الطبيعية المصدر، وأن الشعب لا يرى منها إلا شيئا قليلاً جداً، وتلك لا تُعد سرقة من الحكومة بالقدر الذي يُعد تفريط في ممتلكات البلاد من المال العام وعدم إستغلاله الإستغلال الأمثل، أو مايعرف بخلل إدارة الموارد الوطنية، وبالتالي فلاعجب أن نرى تكدس لموظفي القطاع العام ضمن مفهوم الاقتصاد الريعي الوظيفي السالف الذكر، ومن ثم إرتفاع أجورهم وحصولهم على المعاش التقاعدي المُجزي مع عدم توفره لدى العاملين في القطاع الخاص، ماينتج عن ذلك تكدس المزيد من الموظفين لكي ينعموا بالأجور والمعاش الضماني التقاعدي والتأمين الصحي…الخ.

إن المشكلة في ليبيا هي مشكلة إدارة الموارد، فالبلد غنية بالموارد المتنوعة، ولكن تنعدم فيها عدالة التوزيع أوالعدالة الاجتماعية (كما يسميها البعض)، بالرغم من أن البلاد تمتلك مساحة شاسعة وتقطنها قلة من السكان بالمقارنة مع هذه المساحة الكبيرة التي تتوسط هذا العالم، ومن منظور إداري تنظيمي فالمشكلة في ليبيا تكمن في عدم وضوح وتكامل السياسات، مانتج عنها تضارب الآليات والبرامج وتداخل الاختصاصات، وبالتالي صارت جميع أجهزة الدولة تعمل في جزر منعزلة عن بعضها البعض، كما أن القطاع الخاص الليبي قد تم تكبيله بحزمة تشريعات عفا عليها الزمن، وقد شخص البروفيسور الراحل مايكل بورتر الحالة التنموية الليبية ضمن ماعُرف برؤية ليبيا 2019 في حينها بقوله أن البيئة الليبية بيئة طاردة، وأن هناك صعوبة لتقبل أفكار الحداثة فما بالك بتطبيقها على الأرض، ومن جانب آخر فقد أنتج المرض الهولندي شعباً إستهلاكياً لاينتج شئ تقريباً، بل وإلى الحد الذي جعل الأمن القومي في ليبيا يقع ضمن دائرة الخطر، فالمواطن الليبي يعتمد في معظم مكونات غذائه على كل ماهو مستورد (بإستثناء بعض الخضر والفواكه الموسمية)، وأنه بإمكان القطاع الخاص الليبي متى تم الأخذ بيده من إنتاج منتجات غذائية رئيسية وهامة بديلة لتلك التي يتم إستيرادها الآن، وذلك ومن خلال إنشاء مصانع أو معامل صغيرة مثل مصانع تعليب الطماطم والمكرونة والهريسة والكسكسي والأجبان، كما يمكن للقطاع الخاص المساهمة في تصدير المنتجات الزراعية المحلية عالية الجودة مثل التمور وزيت الزيتون والاسماك والخضر والفواكه، أضف الى ذلك أن ليبيا تصدر نفط خام رخيص الثمن مقارتةً مع سعر المنتجات النفطية التي تستورد أغلبها (60%) من مصافي دول البحر المتوسط وهي بالمناسبة دول غير نفطية أصلاً مثل اليونان وقبرص وايطاليا، وجميعنا يعي أهمية دور الوقود في حياة المواطن بل وفي الامن القومي للبلاد.

ليبيا وأزمتها الاقتصادية الراهنة

يعود السبب وراء أزمة ليبيا الاقتصادية الراهنة إلى سوء إدارة الاقتصاد الليبي، ودون أن نغفل طبعاً عن ضعف السياسات النقدية والمالية في ليبيا، وطبيعة الاقتصاد الريعي نفسه، وتذبذب أسعار النفط، والجدير بالذكر إلى أنه ومنذ توحيد سعر الصرف في ليبيا في العام 2002 وعدم فرض أي قيود على بيع النقد الاجنبي وحتى شهر أغسطس 2014 فقد تم القضاء على السوق السوداء للعملات، وفي المقابل فقد دق صندوق النقد الدولي ناقوس الخطر وفي أكثر من مناسبة موضحاً خطورة أوضاع الاقتصاد الليبي، بل ودأب في تقاريره السنوية على التنبيه إلى ضرورة عدم إتباع سياسة تساير دورة أسعار النفط (pro-cyclical policy)، وبعبارة أوضح: ضرورة عدم التوسع في الإنفاق عندما ترتفع أسعار النفط ، وإدخار الفائض منه لتغطية العجز في وقت تنخفض فيه أسعار النفط خلال دورته السعرية صعوداً ونزولاً.

إن ليبيا بحاجة لتحديد هوية إقتصادها الوطني أولاً، ثم هي بحاجة لإعادة هيكلته ثانياً، ثم بناء المؤسسات علي أسس جديدة يكون أساسها الشفافية والحوكمة، وبشئ من التفصيل فالشفافية المالية المنشودة لاتتحقق إلا بتطبيق قواعد محاسبية ومالية عالمية ومتعارف عليها، والتي تنعكس في صورة الإفصاح الدوري لنتائج عمل / نشاط المؤسسات، أما شفافية المنافسة فتتطلب مراقبة ومنع احتكار السوق والتوجه لاقتصاد تنافسي وحر، وبالتالي فإنه يتعذر تطبيقه في ليبيا في ظل وجود نوعاً من الحماية الجبائية أو نوعاً من الدعم سواء لمنتجات أوسلع تقوم بإنتاجها جهات تملكها الدولة أو تساهم فيها الحكومة، في حين أن الشفافية التنظيمية تتعلق بدور الجهات التنظيمية الحكومية مثل وزارة الاقتصاد على سبيل المثال والتي طوقت نفسها بأدوار لاتُمكنها من القيام بدورها الطبيعي والمتمثل في تنظيم إقتصاد البلاد، والرقابة علي الأسعار و التسعير.

 حلول مقترحة

عطفاً على ما تقدم من سرد، فإن عدداً من الحلول والمعالجات المقترحة يمكن إستنباطها، وهي في المجمل ستساهم بشكل أو بآخر في الدفع بالاقتصاد الليبي بعيداً عن الريع، وجلها ينصب حول فكرة تفكيك الدولة الريعية نفسها، وذلك من خلال تنويع النشاط الاقتصادي للدولة، والاعتماد على الصناعة المحلية، وتبني أنماط الاقتصاد الحديثة كإقتصاد المعرفة، وحاضنات الاعمال، والمشروعات الصغرى والمتوسطة، مع الأخذ في الاعتبار بأن توحيد سعر العملات الاجنبية وجعلها متاحة للجميع هو خطوة سابقة لأي معالجات أو إجراءات إقتصادية من أي نوع كانت، فمن غير المعقول ولا المقبول أن يكون في إقتصاد أي دولة أكثر من سعر للعملة، أو أن تتحول الدولة وبنكها المركزي لتاجر عملات، وبالتالي يمكننا القول بأن المعالجات الممكنة أو الحلول المستنبطة لتفكيك الاقتصاد الريعي الليبي يمكن أن تشمل على سبيل الذكر:- 

 -1  تفعيل دور القطاع الخاص الليبي، وهذا لايعني إقصاء أو إنهاء دور القطاع العام بالكامل، ولكن يبقى دور الدولة متمثلاً في الإشراف والرقابة والتوجيه والتنظيم للقطاعين العام والخاص.

2 تحويل الاقتصاد الريعي الليبي إلى اقتصاد إنتاجي / خدمي، وتشجيع التصدير، والذي يتم في مسارين متوازيين : الأول وهو تطوير الصناعة الوطنية، وبالأخص النفطية منها، ورفع معدلات الإنتاج من النفط والغاز upstream، والسبب وراء ذلك هو وجود احتياطات كبيرة ومؤكدة من النفط الليبي، ولذا وجب استغلالها، فالنفط سيبقى هو مصدر الطاقة الأول في العالم وحتى العام 2035 على أقل تقدير، أما المسار الثاني فينبغي فيه توفير المناخ المشجع للمستثمرين (المحليين والاجانب) على الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والخدمية على حد سواء، وبعبارة أخرى: توفير بيئة استثمارية مناسبة تكون هي الأساس نحو بناء اقتصاد إنتاجي / خدمي، وتشمل على سبيل الذكر تبسيط الإجراءات الإدارية والضريبية، وتأهيل الجهاز المصرفي لتمويل عملية بناء الاقتصاد الإنتاجي أو الخدمي، وتوفير البنى التحتية اللازمة وبالأخص الاتصالات، بشرط أن يتم كل هذا دون تحميل خزينة الدولة أي نفقات أو مصاريف (قدر الامكان).

3- تقليل ميزات الوظائف الحكومية إلى أقل حد ممكن، وضرورة الإلتزام بالترشيد في الإنفاق الحكومي، وبالتوازي مع هذا كله على المؤسسات المختصة بالرقابة والمحاسبة والضبط مراقبة ومتابعة أداء الحكومة فيما يخص أوجه إنفاق المال العام، وتنمية واستغلال الثروات الوطنية.

4-  الاهتمام برأس المال البشري، والذي يعني بالضرورة توفير التعليم الأساسي المجاني، وتوفير التأمين الصحي لجميع أفراد المجتمع كنوع من العدالة الاجتماعية، وتسهيل شروط الإقراض/ التمويل لغرض الحصول على سكن صحي ولائق لكل ليبي يحتاجه.

5-  إعادة هيكلة الصندوق السيادي الليبي وأذرعه الاستثمارية، وإدارته بكل كفاءة وحرفية، فعوائد النفط الليبي هي حق للأجيال القادمة في الثروة الطبيعية الحالية.

6- إعادة هيكلة صندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي بعد تحديد دوره في التنمية وبكل وضوح، على أن تتم إدارته بكل كفاءة ومهنية هو الآخر.

7- التحول نحو العلوم الحديثة كاقتصاد المعرفة، والاهتمام بالتعليم التقني الذي هو أساس التنمية، مع الحد من التعليم الأفقي الذي هو أقرب للعشوائي منه للواقعي، كما أن الضرورة تقتضي أيضاً أن تقوم الحكومة بتقنين برامج الدراسات العليا الحالية وتحديد المفيد منها فقط للمجتمع، وتشجيع البحث العلمي ذو الأثر/ العائد المباشر على المجتمع.

ختاماً، أوصي في نهاية مقالي المطول هذا بالآتي:

  1. استئناف صرف علاوة الأسر الليبية، ومن حيث توقفت.
  2. أوصي بعدم رفع الدعم، والمتمثل في دعم الوقود والدواء والمخصص له الباب الرابع من الميزانية، فهما يمسان حياة الليبيين اليومية، وأرى من الضرورة أن يكون رفع الدعم هو آخر خطوة من خطوات الإصلاح الاقتصادي الصحيح والمتكامل، وفي مقابل ذلك أرى أن تقوم الحكومة أولاً وكنوع من العدالة الاجتماعية بتقديم خدمة التأمين الصحي لكل المواطنين بدون استثناء، وبالتالي تكون الدولة قد تخلصت من دعم القطاع الصحي والدواء وبطريقة عملية وواقعية، كما تكون قد تفضت كلتا يديها من إدارة ملف أثقل كاهل كل الحكومات منذ الاستقلال وحتى يومنا الحاضر.
  3. بما أن الوقود يؤثر في جميع نواحي الحياة اليومية، فإنني أوصي بتوفير المواصلات العامة قبل التفكير في رفع الدعم عن الوقود، فهو خطوة سابقة لرفع الدعم بكل تأكيد.
  4. قد يكون من الضروري إجراء معالجة أو استحداث جداول مرتبات جديدة لا تتجاوز في عددها 5 أو 6 جداول فقط، وتكون فيها قيمة المرتبات متقاربة من بعضها، بدلاً من التباين الصارخ والموجود حالياً في عدد 34 جدول

         اللهم إني بلغت فأشهد!

رابط الجزء الأول من المقال :