أبوسنينة يكتب عن “التوازن والاستقرار في الاقتصاد الليبي”

521

كتب: د. محمد أبوسنينة – المستشار الاقتصادي بمصرف ليبيا المركزي

لا زال الاقتصاد الليبيى بعيداً عن الوضع التوازني، وتهدف السياسات الاقتصادية للوصول بالاقتصاد إلى الوضع الذى يكون فيه ميزان المدفوعات متوازناً وتكون الميزانية العامة للدولة متوازنة، ما لم تضطر الحكومة الى إقرار ميزانية بعجز.

وليس أدل على حالة عدم التوازن التي يشهدها الاقتصاد الليبي من تعدد أسعار الصرف التي يجرى العمل بها فى تنفيذ المعاملات الاقتصادية اليوم، حيث يوجد سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي المقوم عند 1.4 دينار تقريباً لكل دولار، وسعر الصرف المحمل بالرسم المفروض على مبيعات النقد الأجنبي بواقع 163% والذي كان بنسبة 183% مند بضعة أشهر مضت، بالإضافة إلى سعر صرف العملات الأجنبية فى السوق السوداء للنقد الأجنبي.

وإذ يعد تعدد أسعار الصرف مظهراً من مظاهر التشوه التي يعاني منها الاقتصاد فهو بلا شك مؤشر لحالة عدم التوازن التي يعاني منها هذا الاقتصاد، بالإضافة إلى ذلك فإن وضع الميزانية العامة لازال يتصف بالعجز نتيجة لتدني إيرادات الميزانية المحققة عن تقديرات الإيرادات المتوقعة، وعدم القدرة على تحقيق مستهدفات الإنفاق وفقا للتقديرات الموضوعة لها، ناهيك عن الدين العام المتراكم خلال السنوات الخمس الماضية، والأهم فى استعراضنا لهذا الموضوع هو إلى أين يتجه الاقتصاد الليبي في ظل الإجراءات الاقتصادية التى اتخذتها الحكومة بالتنسيق مع المصرف المركزي؟

قام المجلس الرئاسي، بالتنسيق مع مصرف ليبيا المركزي، بتخفيض الرسم المفروض على مبيعات النقد الأجنبي من نسبة 183% إلى نسبة 163%، أى أن نسبة التخفيض كانت فى حدود 10% ، وبذلك أصبح سعر الدولار المتاح بالمصارف التجارية للأغراض التجارية والشخصية، باستثناء مبيعات أرباب الأسر، فى حدود 3.65 دينار للدولار الواحد، وقد كان هذا السعر قبل التخفيض 3.90 دينار للدولار الواحد، أى أن الانخفاض الذى طرأ على سعر الدولار المحمل بالرسم لدى المصارف التجارية كان في حدود 250 درهماً ، وتقدر نسبة الانخفاض فى السعر بحوالي 6.5% . والأثر الفورى الذى ترتب عن هذا الإجراء هو انخفاض سعر الدولار فى السوق السوداء من 4.50 دينار، يوم اتخاد القرار، إلى 4.10 دينار، أي أن الفجوة بين سعر الصرف الرسمي للدولار وسعره فى السوق السوداء قد تقلصت من 3.10 دينار إلى 2.70 دينار، وهذا يعنى انخفاض أرباح المضاربين في سوق العملة بحوالي 13% نتيجة لهذا الإجراء.

ماذا يعني كل ذلك ؟ .. هذا يعني أن سياسة تخفيض الرسم المفروض تحقق أهدافها فيما يتعلق بتحييد المضاربين في سوق العملة، وتضييق الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف فى السوق السوداء، وأن نسبة الانخفاض فى سعر صرف الدولار في السوق السوداء كانت بنسبة أعلى من نسبة التخفيض فى الرسم المفروض على مبيعات الدولار لدى المصارف، وتحمل هذه النتيجة مضامين مهمة للسياسات الموجهة نحو القضاء على السوق السوداء للنقد الأجنبي وعلى متخذي القرار الانتباه اإليها وأخذها بعين الاعتبار، ولكن السوق السوداء للنقد الأجنبي لازات تمثل مصدراً مهماً لتمويل استيراد السلع التي تغدى السوق الليبية وبنسبة لا تقل عن 50% في أفضل الأوضاع نتيجة لتسرب جزء كبير من النقد الأجنبي المباع لأرباب الأسر إلى السوق السوداء مدفوعاً بالفجوة القائمة بين سعر الصرف الرسمي للدينار وسعر الصرف فى السوق السوداء، بمعنى آخر، أن فرض رسم على مبيعات النقد الأجنبي لم يكن كافياً لتحفيز الموردين للجوء إلى المصارف لتمويل وارداتهم السلعية.

وبالرغم من تقلص الفجوة بين سعر الصرف الرسمي للدينار وسعر الصرف في السوق السوداء إلا أن سعر الصرف التوازني للدينار الليبي لا يزال بعيدا رغم الاقتراب منه خطوة، وسيظل الوضع هكذا ما لم يتم تحريك سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي، أى أن رفع سعر صرف الدينار فى السوق السوداء بتخفيض سعر صرف الدولار فيه تدريجياً، وفقا للسياسة المتبعة حاليا، ينبغي أن يصاحبه تخفيض فى سعر الصرف الرسمي للدينار ، بإجراء يقوم به مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي، ليلتقيا السعران عن مستوى السعر التوازني الذي يعرفه ويحدده مصرف ليبيا المركزي، وبذلك يتم توحيد سعر الصرف عند مستوى سعر الصرف التوازني وتنتهى الأسعار المتعددة لصرف النقد الأجنبي، بعدها لن تكون الحكومة في حاجة إلى فرض أية رسوم على مبيعات النقد الأجنبي إذا كانت تهدف من وراء ذلك فى الحصول على موارد إضافية لتمويل الميزانية العامة، والذي نرى أنه ما كان ينبغي أن يكون لسياسة تعديل سعر الصرف.

إن الإجراء الصحيح الذى يعود على الحكومة بموارد إضافية مستحقة لتمويل الميزانية ولا يجادل أحد فى مشروعيته ، طالما ظل النفط هو الممول الرئيس للميزانية، هو إقرار سعر صرف توازني للدينار الليبي يعاد في ظله تقييم الإيرادات النفطية التى تؤول للخزانة العامة، مما يؤدي إلى مضاعفة الدخل، وهو السعر الذي يكفل تحقيق ميزانية متوازنة وقد تتحقق في ظله فوائض إذا ما نجحت الحكومة في إعادة هيكلة برامج الإنفاق العام التي تقوم بتنفيذها، وعندما يحدد المصرف المركزي سعر الصرف التوازني للدينار الليبي لابد أن يكون قد أخد فى الاعتبار وضع ميزان المدفوعات في المقام الأول بالإضافة إلى وضع الميزانية العامة للدولة، أي أن يؤسس قراره على اعتبارات تحقيق التوازن في ميزان المدفوعات والتوازن فى الميزانية العامة للدولة، وهو ما قصدناه بالتوازن الخارجي والتوازن الداخلي.

إن تجاهل مطلب تعديل سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي يؤدي إلى إطالة أمد حالة عدم التوازن التي يشهدها الاقتصاد الليبي، ذلك أن مجرد الاقتصار على تعديل الرسم المفروض على مبيعات النقد الأجنبي لن يخلص الاقتصاد من تعدد أسعار الصرف و لن يوصل الاقتصاد إلى وضع التوازن، ولضمان نجاح السياسة الاقتصادية التي تستهدف سعر الصرف، فى حالة الاقتصاد الليبي، ينبغى معالجة التشوهات الأخرى التي يعاني منها الاقتصاد وفي مقدمتها دعم المحروقات، الذي يشكل تشوهاً حقيقياً ومصدراً لاستنزاف الموارد المقومة بالنقد الأجنبي وبالدينار الليبي، مما يستوجب المضي قدما فى تنفيذ التصورات التي تضمنها برنامج الإصلاح الاقتصادي والمتمثلة في الرفع التدريجي لدعم المحروقات وتعويض مستحقي الدعم نقداً ( المبدأ هو دعم المستهلك وليس دعم السلعة )، كما ينبغى إعادة هيكلة الميزانية العامة للدولة ( جانبي الإيرادات والمصروفات ) وفقا للسياسات المالية المقترحة بالبرنامج، وكذلك إقرار السياسات التجارية المناسبة والمصاحبة لهذه الإصلاحات، والتي لا يتسع المجال لاستعراضها.

أما بالنسبة للاستقرار الاقتصادي المنشود، فإنه يتاثر بخمسة عوامل رئيسية وهي:

أولاً : معدلات استخراج وتصدير النفط الخام ، وأسعار النفط العالمية.

ثانياً : الوضع الأمني والسياسي الذي تمر به البلاد.

ثالثا : السياسات الاقتصادية الداعمة للاستقرار وتحفيز النمو الاقتصادي.

رابعاً: تطوير وتنفيذ استراتيجية وطنية للحماية الاجتماعية ( إيجاد شبكة أمان اجتماعي ).

خامساً : تأسيس شبكة للأمان المالي ، تعنى بالاستقرار الاقتصادي والمالي في الاقتصاد الوطني.

إذ طالما ظلت الإيرادات النفطية هو المصدر الرئيس لتمويل الميزانية العامة وبنسبة تتجاوز 95% ، فإن الاستدامة المالية للحكومة وقدرتها فى الوفاء بالتزاماتها تتوقف على مدى استقرار أسعار النفط العالمية التي تتعرض لتقلبات وعوامل خارجية تحكمها أوضاع سوق النفط العالمية، وكذلك الصادرات النفطية التي تتأثر بأوضاع الحقول والمواني النفطية، وليست الأوضاع التي سادت خلال سنة 2016 ببعيدة عندما انخفض إجمالى الإيرادات النفطية إلى 4.6 مليار دولار، كما تؤثر أوضاع قطاع النفط والدخل المتولد عنه على قدرة مصرف ليبيا المركزي فى الدفاع عن استقرار سعر الصرف وتمويل التجارة الخارجية.

كما تعتبر الأوضاع الأمنية عاملا محددا للنشاط الاقتصادي بصفة عامة، وتؤثر على قدرة مؤسسات الدولة على القيام بمهامها، خاصة قطاع النفط الذي يعتبر الأكثر حساسيةً للأوضاع الأمنية السائدة، كما تؤثر الأوضاع الأمنية فى إمكانية تدفق استثمارات أجنبية إلى الاقتصاد الليبي ورغبة وقدرة الشركات الأجنبية المنفذة للمشروعات في الرجوع إلى ليبيا.

وتشكل السياسات الاقتصادية التي تصب في اتجاه دعم النمو الاقتصادي وتحفيز النشاط الاقتصادي الإنتاجي والخدمي عاملا مهماً في المحافظة على استقرار الأوضاع الاقتصادية، من خلال اتخاد خطوات في إطار إعادة هيكلة الاقتصاد الليبي ودعم القطاع الخاص الوطني وإشراكه في تنفيذ المشروعات وتقديم الخدمات وإيجاد فرص عمل للباحثين عنه، وتطبيق سياسات مالية محابية للنمو والرفع من كفاءة الإنفاق العام.

ويعتبر تطوير شبكة للحماية الاجتماعية من أهم العوامل الداعمة للاستقرار من خلال ما تقدمه هذه الشبكة من دعم للفئات الأكثر تأثراً بالإصلاحات الاقتصادية، والفئات المعرضة لإمكانية عدم القدرة على الوصول إلى الخدمات العامة، وكذلك للمحافظة على الطبقة الوسطى في المجتمع والحيلولة دون وقوع فئات عريضة من المجتمع تحت خط الفقر.

كما يعتبر تأسيس شبكة للأمان المالي مطلباً أساسياً قامت به معظم الدول المستقرة بهدف حماية الاقتصاد الوطني من الأزمات الاقتصادية والمالية التي تنشأ عن مخاطر نظامية تعصف بالمؤسسات المالية، كأن تتعرض إحدى المؤسسات المالية للإفلاس لمختلف الأسباب فتنتقل الأزمة إلى بقية المؤسسات الأخرى، أو أن تتعرض إحدى المؤسسات المالية المصرفية الكبيرة لأزمة تمتد أثارها للمساهمين فيها، أو المودعين بها، ويأتي تأسيس شبكة الأمان المالي من خلال إيجاد لجنة وطنية تتكون من كافة مؤسسات الدولة ذات العلاقة مثل : المصرف المركزي، ووزارة المالية، ووزارة الاقتصاد، ووزارة التخطيط، والمؤسسة الوطنية للنفط، وهيئة الإشراف على شركات التأمين، وصندوق ضمان أموال المودعين، وسوق المال الليبي، وغيرها من المؤسسات الأخرى ذات العلاقة، وتتولى هذه اللجنة الوطنية التدخل في الوقت المناسب واتخاذ الإجراءات اللازمة للحيلولة دون وقوع أية مخاطر نظامية وتقديم الدعم المناسب للمؤسسات التي يشكل انهيارها خطراً جسيماً على الاقتصاد الوطني.

إن أية خطوات تتخذ في سبيل الوصول بالاقتصاد إلى وضع توازني على مستوى سعر الصرف أو الميزانية العامة للدولة على النحو الذي أوضحته في مقدمة هذه المقالة، ستكون معرضة للانتكاس إذا ما اختلت العوامل الحاكمة للاستقرار الاقتصادي، وسيكون الاستقرار هشاً ما لم تتوفر العوامل الخمسة الداعمة للاسقرار المنوه عنها، حيث لن يكون فى مقدرة المصرف المركزي المحافظة على سعر الصرف التوازني للدينار والدفاع عنه ما لم يتم ضبط الإنفاق العام الذي يشكل في العادة مصدر الضغط الرئيسي الذي يهدد استقرار سعر الصرف نتيجة للعلاقة الطردية بين مستويات الإنفاق العام والطلب على النقد الأجنبي، في حالة الاقتصاد الليبي، كما أن استقرار المستوى العام للأسعار رهين بمقدرة المصرف المركزي على إقرار وتنفيذ السياسة النقدية الملائمة والكفيلة بالتحكم في عرض النقود وهيكل الائتمان المصرفي.