التليب في لقاء مع صدى الخروج من هذا الوضع المأساوي سوف لن يكون عملية سهلة

1٬538

عبد الحكيم التليب خبير اقتصادي عمل في مجال أنظمة المعلومات وتحصل على شهادة ماجستير في هذا التخصص من جامعة اولدنبورغ بألمانيا، عمل في القطاع المصرفي في ليبيا وانتقل بين أكثر من مصرف منها المصرف التجاري الوطني ومصرف ليبيا المركزي، ويعمل خارج ليبيا حالياً نشط على مواقع التواصل الاجتماعي وله متابعين كثر على الفيس بوك ، حيث يكتب عن الاقتصاد الليبي و مستجداته وأرائه وقد اختارته صدى لتجري معه مقابلة ليكون شخصية الأسبوع .

بداية أستاذ عبد الحكيم دعنا نتحدث عن مستجدات الوضع الاقتصادي الحالي ..

كخبير اقتصادي ما رأيك في الهجوم على منطقة الهلال النفطي وما تبعاته السلبية حاليا و على المدى البعيد وماهو الحل في نظرك ؟

بالنسبة الى أحداث الهلال النفطي الأخيرة فأنها بالتأكيد أمور مؤسفة وكارثية، ويشوبها الكثير من الغموض بخصوص تفاصيل الإعداد لها وتنفيذها. النتيجة الوحيدة المؤكدة لهذه الأحداث هي زيادة تأزيم وتعقيد الموقف، وزيادة معاناة الناس. الخروج من هذا الوضع المأساوي سوف لن يكون عملية سهلة وسوف لن يتحقق في خطوة او خطوتين بل سيحتاج الى عنصران لا غنى عنهما: العنصر الأول هو توفر ( مشروع طني ) شامل يقوم على تشخيص سليم للحلة وعلى تحديد قابل للقياس للإهداف، وللمراحل والأدوات والوسائل ، بالإضافة الى توفير معايير ومقاييس واضحة تكون بمثابة بوصلة لضبط الإتجاه وتلافي الإنحراف، وفي الأحوال الطبيعية فأن تصميم وصياغة هذا المشروع هو واجب الجهات الرسمية التي تمتلك الصلاحيات والموارد والإمكانيات، وفي حالة إستمرار عجز هذه الجهات عن القيام بهذه المهمة فأن المسئولية ستكون ملقاة على النخب الوطنية المؤهلة، اما العنصر الثاني الذي لا غنى عنه فأنه توفر (الكثلة الحرجة) من النخب والقيادات والقاعدة الشعبية التي تستوعب وتتبني هذا المشروع وتعمل على تحويله الى واقع. بدون ذلك فأن الخروج من هذا المأزق سيكون أمر صعب او متعذر.

ما رأيك بمخرجات الحوار الاقتصادي في تونس ؟ وهل ترى أنها ستطبق على أرض الواقع فعلا ؟

بخصوص ” الحور الإقتصادي” الذي عقد في تونس، فأنني أعتقد ان وصف هذا اللقاء بأنه “حوار إقتصادي” قد يكون فيه بعض التجاوز، فاللقاء لا علاقة له بالحوارات الإقتصادية وهو لم يتجاوز محاولة لترقيع بعض الإختلالات الفادحة التي ما كان لها ان تقع في المقام الأول,
والأمر متعلق بالكامل بمدى جدية الجهات المختصة في حل هذه الإشكاليات، أما الوسائل لمعالجة تلك الإختلالات فأنها معروفة ومتاحة وهي تبدو بديهية الى أقصى الحدود، فمثلا وسائل التعامل مع مشكلة أسعار صرف العملات الأجنبية معروفة ومتاحة وتتمحور حول تحرير سعر الدينار الليبي وجعله متاح للجميع بطريقة شفافة عملية منظمة لا تسبب ضرر للمصالح العليا للدولة، وأريد هنا التذكير ان كمية الدينارات الليبية المتاحة لشراء العملات الأجنبية هي أيضا محدودة وليس كما يبدو ان البعض يتصورون عندما يقولون ان تحرير أو تعويم الدينار الليبي سوف يؤدي الى نفاذ احتياطيات العملات الأجنبية!! الأمر يتعلق فقط بتحديد أسعار تحويل مناسبة وصحيحة ووضع الاليات القادرة على التكيف، والوسائل والاليات لتحقيق ذلك معروفة ومتاحة ومتوفرة.

اذا استطاع هذا البلد تجاوز معضلة العملات الأجنبية مقابل الدينار الليبي، وهي بالمناسبة معضلة (مُصطنعة) لا معنى لها، اذا تجاوز هذه المعضلة بطريقة صحيحة وشفافة وعملية فأن النتائج الإيجابية على الاقتصاد الوطني ستكون واضحة وملموسة، حيث ان توفر مستوى مناسب من الشفافية والاستقرار في سوق العملات يمثل شرط أساسي لا غنى عنه لتحقيق اي تقدم تنموي إستثماري.

أثار تقرير ديوان المحاسبة ضجة كبيرة وغضب شعبي عظيم .. وفي اطار الحديث عن بعض بنوده 
..
ما السبب في تحسن الوضع الاقتصادي الدولة خلال عام 2017 حسب وجهة نظرك؟

لا أرى ان هناك تحسن، ولكن ربما الوضع اخف قليلا، والسر في ذلك يكمن ربما في تحسن أسعار البترول وزيادة الكميات المصدرة، بالإضافة الى قدرة الناس على التكيف مع الأوضاع الصعبة المفروضة عليهم بسبب السياسات الغير مسئولة التي تنتهجها الدولة للأسف.

– برأيك لماذا لم يوظف هذا التحسن في خدمة المواطن البسيط ومن المسؤول ؟

لقد أشرت ووضحت دائما ان ليبيا تعاني من خلل بنيوي جذري على المستوى التنظيمي، وهذا الخلل يجعل حالة هذا البلد تشبه وضعية ( العجلة المربعة ) الغير قابلة مطلقا للدوران بغض النظر عن النوايا الطيبة، وبغض النظر عن كمية الموارد والأموال المتاحة، واذا لم يتم معالجة هذا الخلل البنيوي فأن الوضع سوف لن يتغير، وهذا مؤكد. ولكن، ومع ذلك، فأن بالإمكان بالتأكيد القيام بالكثير من الإجراءات (التسكينية) التخفيفية التي من شأنها ان تعطي جرعة مسكنات للناس وتخفف من الوضع الصعب الذي يعانون منه، على سبيل المثال، الوسائل الفنية لحل أزمة السيولة متوفرة ومتاحة وبالإمكان حل هذه الأزمة في خلال أسبوع أو اسبوعين على الأكثر لو توفرت النية الصادقة.

– ذكر ديوان المحاسبة ان الترتيبات المالية لعام 2017 اتسمت بالارتجالية والعشوائية برأيك فيما تمثلت هذه الارتجالية ان وجدت فعلا ؟

رؤية وتلمس حالة الفوضى والارتجالية لا تحتاج الى تقرير ديوان المحاسبة بل هي للأسف واضحة وملموسة على جميع الأصعدة، هذا البلد للأسف لا يمتلك أية رؤية أو استراتيجية، حتى على أبسط المستويات.

– هل تتناسب الترتيبات المالية التي تضعها الدولة مع الوضع الاقتصادي للبلاد ؟

في الواقع، الترتيبات والسياسات المالية العشوائية التي تتبناها الدولة هي المسبب الرئيسي والأساسي للوضع الاقتصادي الصعب الذي يعاني منه الناس ويعاني منه هذا البلد!

– لماذا من وجهة نظرك أوقف مصرف ليبيا المركزي قرار الترتيبات المالية واقتصره على دعم المرتبات بالرغم من تشكيكه في تقرير الديوان منذ البداية ؟

شخصيا، أعتقد أن أي أجراء من شأنه ان يقلل من النزيف الحاد في الأموال العامة هو قرار إيجابي، بغض النظر عن شرعيته وقانونيته، ولكنني لا أدري مدى جدية قرار المصرف المركزي وكيف سيتم تطبيقه من الناحية العملية، خاصة وان المصرف المركزي يبدو وكأنه منح لنفسه صلاحية تقرير ما هي الضرورات التي تبيح الصرف، وهذا سيفتح الباب للانتقائية والمزاج ؟!

– ما هي أبرز النقاط التي أثارت اهتمامك في التقرير ؟ وما هي النقاط التي تستوجب العلاج السريع ؟

التقرير الصادر من ديوان المحاسبة ليس الأول ولا الثاني ولا حتى العاشر، وقد سبق وأن صدرت عن هذا الديوان الكثير من التقارير التي تتحدث عن الفساد المستشري، والنتيجة الوحيدة التي تحققت هي ان الفساد أزداد واستفحل، رغم أنني شخصيا أتحفظ على استعمال مصطلح ” الفساد ” لأنه من ناحية قانونية لا يوجد فساد في ليبيا ، بل جميع عمليات الصرف والإنفاق تتم عبر القنوات الرسمية وعن طريق مستندات وتوقيعات من أشخاص مخولين، وكما أشرنا دائما فأن الخلل جذري بنيوي ويحتاج الى عملية إعادة نظر شاملة في تركيبة هذا البلد، هذا اذا كنا جادين فعلا في محاولة إنقاد هذا البلد، وهذه مهمة تاريخية كبيرة وشائكة، ومشروع (دولة المواطنة عبر الاطار العملي لمبادئ الحكومة الصغيرة ) يطرح الأفكار والملامح والأدوات التي يمكن أن تشكل نقطة انطلاق ممتازة على طريق معالجة الخلل ونقل هذا البلد من الوضع البدائي الحالي الى دولة حديثة

– شهدنا ردود فعل قوية من مصرف ليبيا المركزي حول موضوع تقرير ديوان المحاسبة عند صدوره انتهت بالتشكيك واتهام التقرير بالمضلل . لماذا ؟

ربما تضارب مصالح !!

-ماذا بعد تقرير ديوان المحاسبة ؟

تحقيق التغيير الإيجابي سوف يتطلب تغيير جذري كامل في طريقة التفكير وفي الاستراتيجيات والوسائل والأدوات، أما اذا أستمر الوضع القائم حاليا فأننا سنرى قريبا تقرير ديوان المحاسبة للسنة القادمة والذي سوف يكون نسخة مكررة من تقرير ديوان المحاسبة للسنوات الماضية ، وسيرى الناس نسخة مكررة من الأرقام والقصص حول الموارد المهدورة.

ثانيا أستاذ عبد الحكيم لنتحدث عن أبرز الملفات الاقتصادية في هذه الفترة ..

– ما سبب الارتفاع في عدم الاستقرار في سعر صرف الدولار خاصة خلال الفترة الماضية ؟
على عكس ما قد يتصور البعض فأن ليبيا بها سوق حقيقي لتبادل العملات، رغم أنه سوق غير رسمي، وهذا السوق يتأثر مثل أي سوق أخر بالعوامل المعروفة التي تؤثر في أسواق العملات، سواء على المستوى الفوري الأني او على المستوى المتوسط والطويل الأمد، ومن أمثلة هذه العوامل مستوى الإستقرار والثقة، تطورات الوضع الإقتصادي، التطورات المحلية والأقليمية، وربما حتى الدولية، كميات العملات المعروضة، وغيرها من العوامل المعروفة والمشهورة، والمعروف أن الوضع في ليبي يعاني من مستوى غير طبيعي من العشوائية بسبب الظروف السياسية المعروفة.

– أثار قرار المستندات برسم التحصيل ضجرا وضخة كبيرة .. ان تم تنفيده بصورته الاولية فما أثاره السلبية على الدولة ؟

هذا القرار هو مثال ونموذج أخر للسياسات الكارثية العشوائية الغريبة !!

– في نظرك ما هو الحل الامثل لمشكلة نقص السيولة ؟

على المستوى الأني الفوري هناك العديد من الخطوات البديهية السهلة التي يمكن القيام بها لتخفيف هذه الأزمة، وأبسط مثال على ذلك هو التوسع في نشر وسائل الدفع الإلكترونية وإلزام جميع الجهات والشركات العامة مثل المصالح الحكومية وشركات الإتصالات ومحطات الوقود وغيرها بقبول هذه الوسائل، هذا الإجراء لوحده سوف يؤدي الى حل أكثر من 70٪ من مشكلة السيولة. أما على المستوى المتوسد والبعيد فأن قطاع المصارف في ليبيا لا يزال خارج التاريخ، ومن الطبيعي والمنطقي ان يعزف الناس عن إيداع أموالهم في هذه المصارف البدائية، وهذا القطاع يمثل نموذج أخر للخلل البنيوي الفادح، وهو يحتاج الى عملية إعادة هيكلة بنيوية جذرية مثله في ذلك مثل باقي القطاعات الأخرى.

– كيف يمكن للحكومة أن تساهم في خفض سعر صرف الدولار؟

كما أشرنا فأن الأمر يحتاج الى معالجة بنيوية طويلة المدى، لا غنى ولا بديل عن ذلك، ولكن على المدى القريب يمكن للدولة القيام بتحرير سعر تبادل الدينار مع العملات الأخرى بطريقة علمية عملية شفافة، وعرض المبالغ التي تخصص حاليا لشراء العملات الأجنبية عن طريق السعر الحالي” الصناعي“ بحيث تكون متاحة للجميع بصورة شفافة، والوسائل الفنية لتحقيق ذلك متاحة.

تعيين شكري كمحافظ لمصرف ليبيا هل سيجد النور ؟ وما الايجابيات والسلبيات من وراء تعيينه ؟

لا أعلم هل سيرى النور أم لا، ولكن، وعلى كل حال، ومع التسليم بأهمية وجود أشخاص مؤهلين قادرين، ومع التسليم بالحاجة العاجلة الى أشخاص أكثر كفاءة وتأهيل، مع التسليم بكل ذلك فأن الخلل أكبر من مجرد الأسماء والأشخاص، ومجرد تغيير الأسماء والأشخاص سوف لن يحقق الكثير، بل قد لا يحقق شيء.

ان عينت كمحافظ لمصرف ليبيا ما هي أبرز القرارات التي ستتخذها ؟

سأسعى الى الضغط من أجل الشروع في السير على طريق تحقيق تغييرات بنيوية جذرية في تركيبة هذا البلد لنقله من الوضع البدائي الحالي الى دولة حديثة قادرة على العمل، وسإقوم بتقديم مشروع واضح عملي محدد لتحقيق ذلك، وسأسعى الى تحرير سعر الدينار الليبي بطريقة علمية عملية شفافة وعبر إستخدام الوسائل الحديثة المتاحة.

ختاما كيف ترى مستقبل ليبيا الاقتصادي القريب ؟

الإصلاح الاقتصادي وبعث نهضة تنموية حقيقية وفتح الفرص امام الناس بصفة ملموسة يمثل حجر الزاوية لانقاد هذا البلد، وليبيا بلد يمتلك الموارد والإمكانيات وبإمكانه ان يوفر ظروف الحياة الكريمة لجميع أبنائه بدون أية صعوبة، ألا أنه يعاني من خلل بنيوي فادح، ومعالجة هذا الخلل ممكن والوسائل متاحة ومتوفرة ولكن تحقيق هذا العلاج سوف يحتاج على الأقل الى الحد الأدنى من النخب والقيادات المؤهلة والمخلصة، والأهم من ذلك سيحتاج على الأقل الى الحد الأدنى من القاعدة الشعبية الواعية القادرة على التمييز والتي تؤازر وتساهم في عملية العلاج.