“الشحاتي” يكتب: عناصر مفهوم أمن الطاقة وتطبيقاته على ليبيا

296

كتب: محمد الشحاتي الخبير النفطي مقالاً

الطاقة الرخيصة هي أحد أهم أسباب التقدم والنمو الاقتصادي المستدام، وتحاول جميع الدول أن تحافظ على تدفق الامدادات من مصادر الطاقة بكلفة اقتصادية منافسة سواء للقطاع الصناعي والخدمي الذي يقوم عليه التطور الاقتصادي أو للأفراد في المجتمع والذي يتحدد عليه مستوى الرفاه الاجتماعي الذي يتمتعون به. 

وبالطبع فأن أي دولة يجب أن تراعي مستوى تدرجها على سلم الطاقة من حيث إمكانيات التزويد وتقنياته والتي تتكسب بتطوير البنية التحتية لشبكات إنتاج وتوزيع الطاقة وبهذا تسهم في خفض التكاليف وتساعد على استتباب الشعور بالأمن من ناحية التزويد بالطاقة.  وتمر كل الدول بأزمات في وصول الطاقة في الوقت المناسب إلى مستهلكي الطاقة مما يتسبب في عراقيل متعددة تصل أحيانا إلى التهديد بحياة الأفراد وليس مستوى رفاهيتهم فحسب.

كانت سنوات السبعينات هي بداية الانتباه العالمي لمفهوم أمن الطاقة بعد حدوث أزمتي الطاقة في 1973 و1979 نتيجة لأحداث سياسية في منطقة الشرق الأوسط مما أثر على سلاسل التزويد وارتفاع أسعار النفط بطريقة غير متناسبة مع مستويات النمو الاقتصادي، وفي ظل عدم وجود وسادات التغطية من هذا الاتجاه سقط الاقتصاد العالمي في أزمات متعاقبة من الركود الاقتصادي المؤلم. 

هذا يدفعنا إلى تحديد العناصر الأساسية التي يجب يبنى عليها مفهوم أمن الطاقة في كل دولة وكيفية محاولة تخفيض المخاطر التي تواجهها عب صعيد توفير الطاقة بصورة مستمرة إلى مواطنيها، البعد الذي يجب أن يتخذ دائما في الاعتبار في مجال الطاقة هو استمرارية الطلب بدون انقطاع، مثلا يمكن أن ينقطع الطلب على الغذاء لفترة ساعات أو على سلع أخرى لعدة أيام، ولكن لن يوجد عذر لمقدم خدمة اطاقة أن يفصلها حتى لثواني أو دقائق معدودة، زمن هنا فأن تصميم سلسلة الامداد يجب أن تكون دقيقة جدا وتتمتع بأعلى المواصفات التقنية وذلك لتحقيق هدفين استراتيجيين هما: توفير الطاقة في الوقت المناسب، وتقليل الآثار الضارة من هذا الفعل على البيئة والاستقرار.

عناصر أي سياسة لأمن الطاقة يجب أن تحتوي على الآتي:
أولا: مصادر الطاقة: وفي المجتمع الحديث المعاصر فأن هذا لا يقتصر على المصادر الأولية فقط مثل النفط الخام أو مجاري الأنهار، بل يمتد إلى الصناعات اللاحقة فوجود نفط خام لن يغذي سيارة بمنتوج البنزين، وجود الغاز الخام لن يشبع الطلب على الطهو أو التدفئة، كما أن وجود مجاري الأنهار لن تكون كافية لتوليد الكهرباء. 

ثانيا: البنية التحتية: وهذا العنصر يدخل فيه جميع مكونات تكرير وتصنيع ونقل مصادر الطاقة إلى المستهلك النهائي لها، فيدخل في هذا العنصر حسابات طاقة المصافي في الدولة وخطوط أنابيب نقل الخام والمنتجات وتخزينها، كما يمتد ذلك إلى محطات توليد الكهرباء وخطوط نقل وتوزيع الطاقة الكهربائية.

ثالثا: الاعتماد على الواردات من الخارج: وهذا عنصر سياسي واقتصادي حاسم يتحدد فيه مدى مرونة الدولة في تنافسيتها الاقتصادية مع الدول الأخرى، ومدى قدرة الدول المصدرة على ابتزاز الدول المستوردة سياسيا واقتصاديا.

رابعا: المخاطر قصيرة المدى على امدادات الطاقة: وهذا العنصر يدخل فيه تحليل العديد من المخاطر التي تهدد المدخلات لنظام الطاقة الوطني على المدى القصير، وتشمل هذه المخاطرة عوامل التهديدات القادمة من تقلبات الجيو-سياسية، الكوارث الطبيعية، الهجومات السيبرانية، ومشكل سلاسل العرض. 

خامسا: الفرص والسياسات قصيرة ومتوسطة المدى: وتساهم هذه الفرص المتاحة في إصلاح نظام الطاقة بشكل مستعجل لتفادي المزيد من الانهيارات الاقتصادية التي يمكن أن يتسبب فيها العجز في توفير الطاقة، وتتركز في عاملين متضادين وهما: أما زيادة الإنتاج المحلي من الطاقة أو تخفيض الإنتاج.  ويجب الأخذ في الاعتبار أن هذه الإصلاحات يجب أن تستهدف أسباب العجز وذلك في محاولة لعودة النظام إلى المرحلة التي سبقت أزمة التزويد وهذا ضروري للمحافظة على نفس مستوى المعيشة لدى الأفراد وحمايته من الانزلاق للأسفل.

من ضمن سياسات التكيف على المدى القصير هي رفع الإنتاج المحلي بالوسائط الموجودة، الترويج لترشيد استهلاك الطاقة، وتخفيض الاعتماد على المصادر الخارجية باستعمال تشريعات مستعجلة.

سادسا: المخاطر على المدى الطويل على امدادات الطاقة: وهذا العامل يتصل بالتغييرات الهيكلية التي تتصل بأسواق الطاقة العالمية، ومن أمثال هذه التغييرات هو إعادة ترتيب مواقع الجيو-استراتيجية بين الدول (مثلا سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين، حرب أوكرانيا، سقوط شاه إيران، غزو العراق)، والتغير البنيوي في أساسيات العرض والطلب مثلا التحول عن الفحم إلى الغاز، صعود الطاقات النظيفة.

سابعا: الفرص والسياسات طويلة المدى: يجب على الدول أن تحدد هذه الفرص بشكل ديناميكي ومستمر لتفادي أي عجز في المستقبل على امنها من الطاقة.  أن عملية تقييم هذه الفرص مرتبطة بالعامل السابق في تحديد المخاطر وعلى الدولة أن تبقي خططها مرنة وقابلة لمقابلة الطوارئ والأحداث غير المتوقعة.  تقوم الفرص والسياسات على كيفية تنفيذ الاستثمارات بصورة فعالة في مجال الطاقة بحيث تحقق تخفيض التكلفة بأكبر قدر ممكن وتفادي التوريد من الخارج برشد.

هذا لا يمكن أن يحدث ألا في وجود سياسة شاملة للطاقة على المستوى الوطني يتم وضعها من أعلى السلطات التشريعية والتنفيذية يحدد فيها التشريعات الضامنة لتحقيق استدامة في امدادات الطاقة، إدارة الدعم بطريقة تحفز النمو الاقتصادي ومنع الهدر، توفير حوافز لتحقيق الانتقال إلى مصادر متنوعة من الطاقة مع تقييد نسب الانبعاثات من المواد والغازات الضارة.

الحديث عن تطبيقات أمن الطاقة في ليبيا حديث طويل ومعقد ويحتاج إلى الكثير من الدراسات، ولكني هنا سأشير بعجالة إلى محورين بتلخيص شديد وهما:

أمن الطاقة في ليبيا على المدى القصير إلى المتوسط:
كما أشرنا في البداية فأن ليبيا لا تفتقد إلى المصادر الأولية من الطاقة سواء النفط، الغاز الطبيعي أو حتى الطاقة الشمسية.  المشكلة تتمثل في البنية التحتية والتي لا تساير الطلب المحلي الحالي على الطاقة. هناك تعقيدات بنوية واجرائية لا متناهية في هذا الخصوص، أولها عدم كفاءة الكثير من الأجهزة لتطوير بينتها التحتية نتيجة لعوامل الفوضى السياسية وعدم وجود تشريعات مناسبة وهناك فشل في تعديل السلوك الاستهلاكي للأفراد بما يتوافق مع الإمكانيات المتاحة.

بالطبع هذا الوضع نتج عن انقطاع تسلسل تطوير السياسات وتوقف عمليات الاستثمار في الفترة السابقة.  لا بد من التشديد هنا أننا لا نتحدث عن أنتاج النفط أو الغاز الإجمالي، بل نتحدث فقط عن أنتاج الكمية المناسبة للحفاظ على مستوى آمن من امدادات الطاقة. 

ويمكن تحديد المخاطر في المدى القصير بالتالي: نقص طاقة تكرير بنزين السيارات حيث لا يكفي الإنتاج المحلي سوى 15% من إجمالي الطلب على البنزين وهذا يعرضنا إلى الاعتماد على الخارج في التزويد، وعلى كل حال أعتبر شخصيا أن هذا الخطر حاليا في مستوى أقل من المتوسط وذلك لوفرة طاقات التكرير في الخارج ووجود فائض في السوق العالمي من مادة البنزين، قد تكون المخاطرة في تزويد البنزين محلية أكثر من الخطر الخارجي نتيجة تهالك أنظمة التزويد، التهريب المستمر نتيجة لوجود التسيب في أنظمة التوزيع المحلية مترافقا مع حافز فرق الأسعار مع الأسعار الدولية نتيجة الدعم الحكومي، ما أعتبره خطرا أكثر جدية هو احتمال وجود نقص في التزويد من منتج الديزل والذي يتسبب فيه توقف مصفاة رأس لانوف إلى حد كبير وكذلك ارتفاع الطلب عليه في محطات توليد الكهرباء، وبينما لا يزال الغاز الطبيعي يوفر من ناحية الاحتياطات وشبكة التوزيع الحالية مصدرا بديلا معقولا لتوليد الكهرباء ألا أن تناقص انتاجه نتيجة قلة الاستثمارات قد تقود إلى تفاقم العجز وربما زيادة الاعتماد على الديزل المستورد معرضا أمن الطاقة في ليبيا إلى توتر إضافي.

هناك مسائل التوزيع الناتجة عن الاضطرابات الأمنية والتي تؤثر مثلا على توزيع أسطوانات غاز الطهي وبنزين السيارات للمناطق الداخلية وهو أمر مؤسف في ظل توافر الإمكانيات الكافية لحل هذه المختنقات في ظل الأوضاع الطبيعية. 

هذا لا يعفي الأجهزة ذات العلاقة من مسئولية التغلب على هذه المصاعب وإيجاد طريقة تعتمد على كفاءة الرقابة والتتبع لضمان حصول المواطنين في جميع أرجاء ليبيا على حقوقهم في مصادر آمنة ومستمرة للطاقة.

أمن الطاقة في ليبيا على المدى الطويل:
يتحقق أمن الطاقة على المدى الطويل بتحسين آليات الاستثمار وتحديثها، حيث كما اشرنا أن البلد لا تنقصه الموارد الأولية المحلية.  هذه الآليات ترتبط بتغيير نماذج التمويل وتعديل السلوك الاستهلاكي ويمكن في مقال اخر ان اتوسع في هذا الخصوص.