“بريون” يكتب: من الأفضل أن يكون سعر الصرف واحدا فقط

666

كتب: الخبير الاقتصادي ” د. نوري بريون “

من لا يُريد مقياسا واحدا لسعر الصرف؟ لأن التميز في القياس بين وحدتين متساويتين من نفس العملة يجعل سلوك الإنسان شديد الإنحراف إلى مصلحته، وابتعاده عن العدالة.

إن أي اقتصادي ماهر ارتفع شأنه في الماضي قد عارض تبني قياسين للعملة الواحدة: مثل سعر صرف أقل (للدولار= 1.3387 د.ل متوسط يوم (20\1\2020) لاستيراد السلعة الضرورية، وسعر صرف أعلى بالدولار للسلع الكمالية، فيكون متوسطه (1,3421د.ل), وتكون السياسة المالية البديلة في وزارة المالية بتخفيض التعريفة الجمركية على الواردات من السلع الضرورية للمحافظة على مستوى المعيشة لذوي الدخل المحدود. كما يمكن للدولة أن تُدعم الصادرات لتنخفض أسعارها في الخارج، فيزيد الطلب عليها، الأمر الذي يُوفر النقد الأجنبي للبلد فتزيد من احتياطياتها الدولية، أو تزيد من استثماراتها المحلية، أيهما أفضل لها لذلك يؤيد الكينزيون بأن السياسة المالية أكثر كفاءة من السياسة النقدية في هذا الشأن، لأن تكلفة تغيير سعر الصرف أكثر من تكلفة تغيير التعريفة الجمركية .

أضف إلى ذلك لو تكرر تغيير سعر الصرف كسلوك لتغطية العجز في الميزانية، لسبب أضرارا موجعة في المدة الطويلة. لذلك لا تسمح لوائح صندوق النقد الدولي بازدواجية سعر الصرف للبلد الواحد، ولكنها تسمح بهامش ضيق في حدود مثل 2% سالبا أو موجبا ( كمرونة لأداة القياس)، كما تسمح اللوائح للعضو أن يُخفض قيمة عملته بنسبة 10% أو أقل دون إستشارة الصندوق. أما إذا زادت نسبة التخفيض على 10% ، فوجبت إستشارة الصندوق لكي يقدم آلأخير نصائحه في هذا الشأن، ومع ذلك مارس الصندوق طيلة عصر السعر الثابت تعاونا جيدا مع الأعضاء من البلاد النامية، للمحافظة على عضويتها. علما أن أمريكا قد بدأت سعر صرفها الثابت منذ عام 1933، وحتى عام 1971 حيث تم تخفيضه بنسبة 7.5% لأول مرة وسط إضطراب السوق المالية في العالم.

لا شك أن التعريفة الجمركية تعتبر أداة من أدوات السياسة المالية، ومقصدها هو المحافظة عل مستوى القوة الشرائية لدخل المواطن، أو لتمويل العجز في الميزانية وتفادي إحداث الدين العام. بينما لا يعتبر سعر الصرف أداة من أدوات السياسة النقدية، لأنه في الواقع هو من مقاصد السياسة النقدية، مما يجب المحافطة علي استقرار قيمة العملة لتكون قريبة من الثبات، لذلك يحث الاقتصادي الماهر وكذلك صندوق النقد الدولي على الاهتمام بالمحافظة على استقرار سعر الصرف ، وخاصة إذا كانت البلد تعتمد على مصدر واحد في دخلها من النقد الأجنبي مثل ليبيا، وأكثر من ذلك كله إذا كانت تعتمد على أكثر من 80% من آستهلاكها من الخارج، مما يُفقدها ضبط استقرار عملتها، فتنكمش سيادتها التي نشأت من تبني الدينار كوحدة قياس بين المنفعة في ليبيا وبين باقي دول العالم. ذلك لأن رجال السياسة ومفكريها يعتبرون تبني الدولة لوحدة العملة ، والقدرة على ضبط استقرارها كوحدة قياس للمنفعة، هو بمثابة علو السيادة للدولة.

إن القوة الاقتصادية للدولة هي التي تعطي القوة الاستبدالية لوحدة عملتها، وبالتالي فإن هذه العملة القوية هي التي ألبست ثوب السيادة للدولة. إذن أصبح رمز سيادة الدولة ( في اعتقادي ) يكمن في وحدة العملة القوية في استقرارها نحو الثبات ، (وليس العلم أو القوة العسكرية )، لأن العملة القوية لصيقة بالاقتصاد القوي، والأخير لصيق بالحياة ، والحياة ستبقى وفق مشيئة الله.

من اللافت للنظر أن مناقشة بعض الاقتصاديين سواء في القنوات الإعلامية، أو في الكتابات المقروءة ، يركزون المقارنة مع أسعار صرف السوق السوداء التي تم بناؤها على أساس رغبة المفسدين في أكل أموال الناس بالباطل ، وعلى أساس رغبة بعض رجال الأعمال في تحقيق الأرباح الطائلة غير المشروعة . بينما الواجب يُؤكد الانطلاق من سعر الصرف الرسمي الذي تعايش معه الليبيون لمدة طويلة، لذلك وجب معرفة كيف نشأ الدينارالليبي ، وكيف تطور حتى الوقت الحاضر. علما أنه في حالة ليبيا وُضعت وحدة الجنيه الليبي (منذ بداية الاستقلال) مساوية لوحدة الجنيه الاسترليني ، ربما لأن معظم ليبيا كان مستعمرة لبريطانيا من جهة ، أو لأن بريطانيا هي التي دفعت قيمة غطاء العملة الليبية المصدرة ( 3.368 مليون ج ل في يونية 1952 ) من جهة أخرى . بما أن الجنيه الإسترليني يساوي 2.8 دولارا أمريكيا، في ذلك الوقت ، فأصبح الجنيه الليبي يساوي أيضا 2.8 دولارا. استطاع الدولار أن يحافظ على استقراره وثباته لمدة طويلة حتى عام 1971 ، ولكنه اضطر إلى الانخفاض في نوفمبر1971 كما سبق ذكره. ثم انخفض مرة أخرى بنسبة 10% في 13 فبراير 1973 ليرتفع سعر صرف الدينار الليبي إلى نحو 3.4 دولار، أي بزيادة بلغت نحو 21.43%. هذه الزيادة هي بمثابة الزيادة في الدخل التي تُوسع من حجم القوة الشرائية للدينار، ولكنها تنقصها العدالة، لأن الزيادة كانت كنسبة مئوية واحدة من الدخل، بينما العدالة عند الاقتصادي الماهر أن تكون الزيادة في الدخل ( بسبب ارتفاع قيمة الدينار) يجب توزيعها على فئات الدخل المتدنية بنسبة مئوية تنازلية تصل إلى الصفر، مثل مرتب (( 500 د ل فأقل) 15% ،(500 -1000) 10% ،( 1000-1500 ) 5% ،(1500–1600) 4%، (1600- 1700) 3% ،( 1700-1800 ) 2%،( 1800- 1900) 1%)).

أما إذا كان رفع سعر الصرف بنسبة 5% ( أو أقل من سعر إعادة الخصم بالمصرف المركزي) فيمكن غض الطرف عن أثر تخفيض قيمة الدولار، إذا كان أثر ذلك التخفيض غير ملموس على الاقتصاد الليبي. علما أن هذا التعديل يقترحه الاقتصادي الماهر لغرض التوزيع العادل للدخل المكتسب حتى لو كان وهميا أو غير مباشر كما هو في حالة ليبيا.

كما يعلم معظم النقوديين بأن وحدة حقوق السحب الخاصة و( ح س خ )، قد ورثت من الدولار آلأمريكي قيمته القديمة من وزنه الذهبي البالغ ( 0.888671 غرام ذهب صافي) لثمنية العملة بالذهب، وعلى أساسه يتم تحديد الأسعار اليومية . عندما كنت المستشار الاقتصادي للمصرف المركزي ، طلب مني وزير المالية في مارس 1986، إعداد برقية بشأن ربط الدينار الليبي بعملة ملائمة قابلة للتحويل، فبادرت بالإجابة وقلت إن عملة الدولار الأمريكي ، و( ح س خ ) هما العملتان الملائمتان لربط الدينار الليبي بأحدهما، علما أن وحدة حقوق السحب الخاصة هي الأفضل لثلاثة أسباب :

*الأول هو أن دول العالم كلها شركاء في وحدة قياس و(ح س خ ) وهي وحدة قياس دولية فقط لجميع دول العالم الأعضاء في الصندوق الموقعة على و ( ح س خ ) .

  • الثاني هو أن و( ح س خ ) كآلتزام لدفع قيمتها بالعملة القابلة للتحويل ، وليس الدفع عينا بتسليم الذهب الصافي كما كانت تلتزم به أمريكا..
  • *الثالث هو أن و(ح س خ ) ليس لها علاقة بالسياسة المباشرة للولايات المتحدة الأمريكية، لأن السياسة المباشرة الأمريكية لصيقة بالدولار آلأمريكي الذي يعتبر أحد رموز سيادتها . فأجاب الوزير مقبول توكل على الله مع الشكر.وفي نفس الشهر تم إرسال البرقية إلى صندوق النقد الدولي بشأن فك إرتباط الدينار بالدولار، وربطه بوحدة حقوق السحب الخاصة .بتاريخ 18\3\1986.
    من جهة أخرى بدأت مرحلة تخفيض قيمة الدينار الليبي لأول مرة بنسبة 7.5% في أول مايو من عام 1986 ليكون التدرج البطيء هو السياسة الرشيدة في هذا الشأن.وعندما تم هذا التخفيض لتكسب الخزانة زيادة في إيراداتها تصل إلى 15% إنخفضت قيمة الدولار ليكون الكسب من تخفيض قيمة د ل نحو 4.3% فقط،
    ومع علم الوزير بهذا الكسب المتدني،أكد لي أنه من الأفضل إرسالها. كما تم ثلاث تخفيضات متدنية تحت إشرافي: بزيادة 3.5 درجة ليكون التخفيض التراكمي 11% بتاريخ 24\3\1992 ، وزيادة 2.5 درجة ليكون التخفيض التراكمي 13.5% في 25\7\1992، وزيادة 2.5 درجة ليكون التخفيض التراكمي 16% في 1\8\1992
    تليها تخفيضات أخرى بنسب متضاعفة لم أشرف عليها، كان أكبرها التخفيض قبل الأخيرالذي بلغت نسبته أكثر من 50%، بتاريخ 1\1\2002 ، والأخير الذي بلغت نسبته نحو 15% بتاريخ 14\6\2003. وللأسف تم جميع هذه التخفيضات ولم يُخصص تعويض ما لذوي الدخول المتدنية مثل المتقاعدين ، الأ مر الذي جعل المشكل الإقتصادي يظهر من جديد ويتفاقم..وللأسف أيضا لا زالت الدولة تفرض الرسوم على بيع النفد الأجنبي، وهو يعتبر تخفيضا لقيمة العملة، وبدل أن تهتم الدولة برأي العلماء والمتخصصين، نراها تهتم برأي أنصاف المتعلمين الذين يرون ما هو في مصلحتهم فقط..ورغم أني أعتقد أن قيمة الديناريجب ألا تقل عن 0.75
    و( ح س خ ) في عام 2003 وليس (( 0.5175 و(ح س خ )) لكن ما دامت تلك القيمة أصبحت تاريخية ، فالأفضل المحافظة عليها، والإتجاه نحو السياسات المالية والتجارية في معالجة التشوهات الإقتصادية.
    هنا تجب الملاحظة بأن إنهيار قيمة الدينار خلال الثمانينيات والتسعينيات حتى تجاوزت قيمته ثلاثة دنانير، ترجع إلى سوء الإدارة في جميع أجهزة الدولة من جهة، وإلى فساد اللجان الشعبية لمصانع القطاع العام بوزارة الصناعة. ذلك لأن هذه اللجان الشعبية لم تلتزم بآلية التنفيذ الإقتصادي:وهي تنفيذ حسابات التكاليف عند الإنتاج والبيع، لكنهم أهملوا واستغلوا إرتفاع الأسعار في السوق، فيشترون الدولار من المصرف المركزي بنحو 297 درهما، ويبيعون إنتاجهم وفق السوق السوداء،
    فتُظهر الميزانية أرباحا طائلة على المستوى الجزئي، بينما هي قد حققت خسارة ملموسة على المستوى الكلي ظهرت في إنخفاض القوة الشرائية لذوي الدخل المحدود من جهة، وفي بند الدين العام في حسابات الدولة.من جهة أخرى. لا شك أن هذه النتائج من قطاع عام قوي بسبب إستخدامه أداة القياس في الإتجاه الخاطئ مما وجب هدم هذه الأداة ، أو تغييرها نحو الإتجاه المُحقق لهدف الإستقرار ،بالتغيير الإداري وليس بالسياسة النقدية.، وهذا هو ما حصل في عامي 2002 و2003. علما أنه بالسعر المعلن ( 4.48 د ل) للدولار لا يستطيع المصرف المركزي تلبية جميع رغبات المواطنين، وخاصة إذا وافقت الدولة عل صرف علاوة الأسرة 150 دينار للزوجة ، و50 دينارا للطفل، بالإضافة إلى تسديد الزيادة في المرتبات الموافق عليها للعدقاعدين ، وبعض المعلمين. وإذا كان من الضروري إضافة علاوة الأسرة ، فيمكن تقديرها في حدود 50 دينارا للزوجة ، وعشرة دنانير للطفل الواحد. علما أنني أعتقد يجب إبعاد الدعم آلإجتماعي عن المرتب الذي يجب أن يُقاس على أساس مجهود آلإنسان عضليا وعقليا، على أن يُقاس المجهود العقلي على أساس ما تحصل عليه من علم وثقافة وخبرة عملية، أي بدون التميز بين آلأعزب والمتزوج. فيكون الدعم الإجتماعي للمرأة والأطفال على اساس طلبهم على الحفاظات والحليب بنسبة ملائمة تغطي أ رباح المنتج إذا كانت السلعة يتم إنتاجها محليا، وتغطي
    أرباح التاجر إذا كانت مستوردة من الخارج .
    ومن جهة أخرى ، إذا لم تقتنع الجهات المسئولة برأي العلماء ورأي الإقتصاديين المتخصصين في النظرية النقدية، والمتخصصين في الإقتصاد الدولي، وكذلك صندوق النقد الدولي ، فكيف يواجهون الله الذي قال سبحانه وتعالى (ولا تبخسوا الناس أشياءهم-183 ) سورة الشعراء. يقول القرطبي البخس هو النقص، وهو يكون في السلعة بالتعيب والتزهيد فيها ،أو المخادعة عن القيمة ، أو الإحتيال في التزيد في المكيل والنقصان منه ، وكل ذلك يُعتبر من أكل المال بالباطل. يقول صاحب صفوة التفاس ير الشيخ محمد الصابوني ( أي لا تنقصوا حقوق الناس بأي طريق كان بالهضم أو الغبن أو الغصب ونحو ذلك)المجلد الثاني393.
    مما زاد من حيرتي هو أن كل الشعب الليبي يدين بالإسلام ،ولكن معظم تصرفاتهم لا تمت إلى أخلاق الإسلام بصلة، حتى أصبحت عادة ( العناد ) سمة متجدرة في سلوكهم وانحراف أغلبهم نحو مخالفة القانون من أجل أكل المال بالباطل ، مما يعني أن التعليم والتربية وكذلك الأباء والأمهات فشلوا في تعميق التربية .

لذلك ليس الحل الإقتصادي بالصبر فقط حتى تتم التربية الصحيحة، بل بالقرارت الحاسمة في إستخدام ( آلية التنفيذ الإقتصادي ) في كل المجالات، ومنها التربية الإلزامية على تنفيذ القانون، لأن الكفاءة في الإنتاج تتطلب الأمن أولا. علما أن التربية في الغرب لم تأت في الغالب من التعليم والتربية فقط، ولكنها جاءت من تطبيق القانون على المنحرفين دون التميز بين المواطنين،بالإضافة إلى جعل السجن مدرسة للطاعة للنظام والقانون والتربية الصحيحة.
ومع ذلك كيف يُطبق سعر الصرف (4.48 د ل للدولار ) لمتقاعد براتب 550 دينارفي نهاية عام 2010 وهو يساوي أيضا 438.5 دولار بسعر صرف الدولار في نهاية 2010 كمتوسط يساوي 1.25436 دينار، وعندما يصبح سعرالدولار 4.48 دينار رسميا، يكون راتبه الشهري أقل من123 دولار( 122.77).وإذا كان سعر السوق السوداء وصل إلى 6.0 دينار=دولار، فهل يكون من الصواب أن نتبع الخطأ البين وهو إجراء موجع جدا للأغلبية من الشعب الليبي، وخاصة بعد أن فقد الشعب جميع الدعم الذي تقدمه الجمعيات التعاونية. وهل من الحكمة أن نُوقف الإجراء الخاطئ بزيادة سعر الصرف التي تزيد من فقر الشعب وزيادة معاناته.
وبالتالي فإن هذا الإجراء يُؤيده أصحاب نظرية الفوضى الخلاقة، ولا أعتقد بصحتها
لأن الفوضى تنمو بالتوسع ويصعب على الإنسان تتبعها.لكن بدل ذلك كله أليس من الأفضل أن نقترب من السعر الرسمي الذي يحافظ على القوة الشرائية للدينار وفي نفس الوقت المحافظة على مستوى المعيشة لهؤلاء الفقراء
إذن من الأفضل للإقتصاد الليبي أن يحافظ على سعر الصرف الحالي، على أن تٌنشئ الحكومة مجلس أعلى للتنمية الإقتصادية لدراسة وتحليل جميع التشوهات في آلإقتصاد الليبي لوضع العلاج الملائم لها ،.بالإضافة إلى وضع سياسات مالية وتجارية مُحفزة للتنمية الإقتصادية. كما إني أرى أنه من الممكن المحافظة على إستقرار سعر الصرف الحالي، لأنه قريب من وحدة الدولار التي تعتبر العملة الدولية في العالم.

(29\12\2020)
د.نوري عبدالسلام بريون