خبير اقتصادي يكتب: العوز بالاقتصاد الليبي وأداء وزارة المالية “الجزء الأول”

446

كتب: الدكتور والخبير الاقتصادي “يوسف يخلف”

هل فعلا من أولويات الحكومة العدالة في توزيع الدخول، ومحاربة الفساد والجريمة والانفلات الأمني؟ هل فعلا تحارب الدولة ظاهرة تأخر الزواج؟ هل فعلا تدعم الدولة المسنين وذوي الإعاقة والأرامل والمعوزين؟ لماذا لم تحل أزمة السكن منذ الست عقود الماضية؟ لماذا لا تنعم أنت وكل مواطن ليبي بتأمين ضد البطالة والمرض (في حين ينعم بعض موظفي القطاع العام به)؟ ولماذا تخصم الضرائب ولا ترى آثرها على حياتك الشخصية أو بناء الدولة؟ لماذا تسجل ليبيا أعلى معدلات وفيات بسبب الأمراض الخطيرة والمزمنة؟ ولماذا أصبح الخطأ الطبي شيء طبيعي ومتعارف عليه بل مقبول اجتماعيا، ويتجنبه المواطن بالسفر للعلاج في الخارج بعد بيت ببع أرضه أو بيته أو الاستدانة إن وجد او يتغمده الله برحمته إن كان معوز؟ و … الخ. كل تلك الاسئلة وأكثر تجد لها إجابات او مفاتيح إجابات مستترة في جداول وبيانات الميزانية العامة للدولة.

قل لي فيما تنفق أموالك أقول لك ما هي أولوياتك، ينطبق هذا القول أيضا على الحكومات، والطريقة الأكيدة لمعرفة أولويات الحكومة الفعلية وسياساتها (وليس كما تعلن لغرض الدعاية) هي بيانات الميزانية العامة، وهذا يقودنا إلى ضرورة التعرف على إجابات للاسئلة العشر، وسنورد نصفها في هذا الجزء:

1- ما هي الميزانية العامة للدولة؟ هي البيان السنوي الشامل الذي يوضح أوجه النشاط الحكومي، من خطط للأمن والتعليم وللصحة والثقافة والزراعة وطرق ومحطات صرف … الخ. وبتتبع بيانات الميزانية العامة تستطيع كمواطن عادي أن تتبين أولويات الإنفاق الحكومي على مختلف المجالات التي تغطيها وموارد تمويلها، وهذا ما يطلق عليه السياسة المالية.

فالسياسة المالية هي أداة من أدوات الحكومة للتدخل في النشاط الاقتصادي، وبذلك فإن الميزانية العامة هي بيان لتلك السياسة، تبين طبيعة ومدى تأثير الحكومة في الاقتصاد، وتلعب الميزانية أدواراً في تنشيط هذا القطاع أو ذاك، كما لها دوراً أساسيا في إعادة توزيع الدخول لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتصدر الموازنة العامة بقانون كل سنة (لتظهر في نهاية الفترة كميزانية عامة)، وذلك لتأكيد أمرين:

أولاً- إذا لم تنفذ الحكومة ما التزمت به من وعود سنوية أمام الشعب تكون قد خرجت على القانون.

ثانياً- لا تصدر إلا بعد أن يوافق مجلس النواب على تلك الأولويات في الانفاق الحكومي وفي أسلوب التمويل، ولكن النقطة المهمة التالية، ما هو الإنفاق خارج الموازنة؟ ولماذا؟

2- ما هو الإنفاق خارج الموزانة؟ يظهر هذا المفهوم بوضوح عند الليبيين بمصطلح (الخدمة على الرأس)، وذلك عندما يتقلد الفقير ساسي الشنكاش منصب ما، وبعد برهة من الزمن يشتري قصر ومزرعة ويصبح رصيده 500 مليون د.ل، وبالتالي فإن هذا الإنفاق غالبه سوء إدارة وإنفاق المال العام تحت حجة الأمور الطارئة، ويعرف بـ “إنفاق حكومي لا يظهر في جدول الموازنة أو الميزانية العامة نهاية العام”، وهذا الإنفاق بعضه يمكن الحصول على بياناته والآخر غير متاح، وهذا بطبيعة الحال غير ديمقراطي ومنافي للشفافية والإفصاح ومدنية الدولة، وما حدث لتقارير ديوان المحاسبة لسنتي 2018 و2019 خير دليل، فالأصل هو ضرورة إظهار بيانات الميزانية العامة “الإيرادات العامة والإنفاق الحكومي”، إلا أن الحكومة الليبية اعتادت على اخفاء ذلك أو جزء منه، ومن أبرز الأمثلة على إنفاق حكومي مستتر، هو المنح والمساعدات التي تنفق في الخفاء دون طائل أو فائدة للدولة، وكذلك سوء إدارة المال العام وغيره، وعادة ما تنفق الحكومة هذه الأموال من أرصدة الدولة أو التصرف بأصول استثمارات خارجية بشكل مخالف للقانون، والمؤسف أن هذه تكون بعيدة عن الرقابة أو الملاحقة القضائية، ولهذا لا تظهر في الموازنة العامة أو حتى في تقرير الميزانية العامة … والسؤال التالي فيما يتمثل الإنفاق الحكومي؟

3- ما هو الإنفاق الحكومي؟كما تلجأ أنت لضبط ميزانيتك الشخصية عن طريق تقسيمها لبنود الإنفاق المختلفة، تفعل الدولة ذلك لذلك تجد الموازنة العامة مقسمة بحسب بنود الإنفاق الحكومي، وتعرف في ليبيا “الباب” ويعبر كل منها عن الحجم الإجمالي للموازنة العامة في كل سنة، وبشكل عام يزداد تلقائيا حجم الموازنة (الإنفاق الحكومي) عاما بعد الآخر، بسبب الزيادة السكانية و يفترض زيادة النشاط الاقتصادي. فعندما تشتري الدولة شعير أو سيارة أو تدفع مرتبات فهي تضخ أموالا في جيوب الموظفين والمزارعين وغيرهم، مما ينشط دورة الاقتصاد، وأيضا عندما تدفع الدولة إعانة بطالة لك فهي تشجعك على طلب- شراء السلع والخدمات، وهكذا كلما زاد حجم الإنفاق الحكومي زادت معدلات الاستهلاك (وبالتالي الطلب الكلي)، محفزا ذلك النمو، شرط الحد من الاستيراد وليس كما نفعل في ليبيا نسرب في انفاقنا للخارج بسبب ارتفاع معدل الاتكشاف التجاري، ويمكن تقسيم أهم أبواب الإنفاق الحكومي لسنة 2017 في ليبيا إلى :

الباب الأول- المرتبات: هي مجمل الدخول التي يتحصل عليها 1.6 مليون مواطن ليبي تقريبا سنة 2017 يعملون بالوزرات والبرلمان وما في حكمه والهيئات، وتمثل أكثر من نصف الموازنة أي ما نسبته 58% من موازنة الدولة الليبية، في 2017 يتضح أن متوسط دخل موظفي القطاع العام 924 د.ل اي ما يعادل 237$ وهو أدني من خط الفقر التي حددته الحكومة الليبية سنة 2006 بـ 267$ والذي يقدر سنة 2017 بـ 1335$. ومن ناحية أخرى نجد أن تفاوت الدخول في ليبيا وصل إلى مستويات غير مسبوقة حيث يتنعم بالثروة الليبية 114 ألف مواطن أي ما نسيته 7.8%، ويعيش الفقر والعوز 1454748 مواطن ليبي عامل بالقطاع العام.

الباب الثاني- شراء السلع: اللازمة لجميع أوجه النشاط الحكومي، مثل معدات ومواد البناء، أجهزة وأدوية ومستلزمات المستشفيات، السلع الاستهلاكية وغيرها، وذلك لخدمة 6 مليون مواطن، وهذا يجعل من الحكومة أكبر مشترٍ في البلد، ويحصل هذا الباب في المتوسط على حوالي5.7 مليار أي 15٪ من الانفاق الحكومي في 2017م.

الباب الثالث- التنمية والمشروعات: هي أفضل وسيلة لتنشيط الاقتصاد مع مراعاة الحد من الضغوط التضخمية، وخصصت الموازنة 4 مليار أي ما نسبته 11% من إجمالي الإنفاق الحكومي في سنة 2017م. ويفترض أن تنشر قيمة الأموال وإلى أي القطاعات توجه الحكومة استثماراتها كل عام من على موقع وزارة التخطيط. (ولكن واقعيا بليبيا لا توجد استثمارات بالمعني الفعلي).

الباب الرابع- الدعم: كانت تدعم الحكومة أسعار المواد الغذائية الأساسية منذ عقود مضت، ولكن قطع هذا الدعم نهاية 2015 تقريبا بحجة منحها للافراد مباشرة عبر منظومة الرقم الوطني، فلا الأموال للمواطن منحوا ولا السلع دعموا واختفى ذلك الدعم إلى اليوم، وأكتفت الحكومة بدعم الوقود فقط، وتهدد بين الفينة والأخرى بقطعه بحجة الإصلاح الاقتصادي، عموما بلغ معدل الدعم بموازنة 2017 حوالي 6.3 مليار أي ما نسبته 17% من إجمالي الإنفاق الحكومي، (ولكن هل فعلا أنفق !) أما كيف تستطيع الدولة الإنفاق على هذه البنود وغيرها، فستجده في البوست التالي:

بالطبع في ظل عدم تفاوات الدخول والعدالة الاجتماعية، وليس مثل ما نراه في ليبيا من تفاوت بالمرتبات وتسرب المال العام.

4- ما هي الإيرادات الحكومية؟بغض النظر عن عوائد النفط، تدخل الخزانة العامة الليبية سنويا المليارات من الدينارات، تحصل عليها الحكومة إما قصرا (بقوة القانون) عن طريق تحصيل الضرائب والجمارك، واما مقابل أداء بعض الخدمات مثل رسوم خدمات عامة أو دمغات وغيرها، وتعاني ليبيا هيكليا من سوء إدارة مزمن في إدارة الموارد النفطية والايرادات السيادية الاخرى، مقارنة بدول نفطية أخرى بالمنطقة العربية مثل الكويت والإمارات.

وتعتبر الضرائب مصدر لا يستهان به من الموارد الحكومية، وتهدف الضرائب لتحسين حياة المواطن والعمل على تحقيق الرفاه الاقتصادي له، كما تهدف الضرائب للعب أدوار احداث توازن للنشاط الاقتصادي وترشيد الطلب الكلي بغرض الوصول لتوازن كلي بالاقتصاد. فالأصل أنه كلما فرضت الحكومة ضرائب أعلى على نشاط اقتصادي، كبحته والعكس بالعكس، لذلك يبقى السؤال الذي يفرض نفسه دائما: على من تفرض الحكومة الضرائب،؟وهو ترجمة لما يعرف بالسياسة الضريبية، وقد ترفع الحكومة الضرائب على الدخول المرتفعة، حتى لا يتركز الدخل والإنفاق في أعلى دائرة النشاط الاقتصادي فقط (العقارات والاراضي والسيارات وغيرها).

وبالمقابل، يساهم خفض الضرائب على الدخل في أوقات الكساد في الحفاظ على القدرة الشرائية. وتعكس السياسة الضريبية للدولة مدى تحقيقها للعدالة الاجتماعية وبطبيعة الحال عدم تفاوات الدخول بين موظفي القطاع العام. والضرائب أنواع (وبعضها غير موجود في ليبيا):

1- ضرائب على الدخل من الأجور والتوظف وعلى الأرباح

2- وهناك أيضا الضرائب الرأسمالية مثل تلك المحصلة على بيع الأصول مثل الاراضي والعقارات، أو بيع حصص في الشركات وضرائب على الأرباح سواء التي تحققها الشركات عن أعمالها أو الناتجة عن التداول في البورصة وهكذا

(.3- الضرائب الغير مباشرة أو ضريبة القيم المصافة، وتعرف أيضاً بالضريبة القطعية على بيع أي سلعة أو خدمة بغض النظر عن إمكانيات المشتري المالية، وتندرج تحتها ضريبة المبيعات الموجودة في ليبيا، وهي تعد من أكثر أنواع الضرائب قسوة لأنها تشكل عبئا على المواطنين في الشرائح الدنيا للدخل.

4- وهناك ضرائب أخرى مثل ضرائب مبيعات المحروقات بالسوق المحلي وضريبة الاتصالات وغيرها، حسب تقارير المؤسسات الرقابية والحكومية فإن الإيرادات السيادية الغير نفطية شهدت تدهور كبير بعد 2010، حيث انحفضت قيمتها بمعدل 374% سنة 2017م، وأكد وزير المالية بحكومة الوفاق أن نسبة تحصيل الإيرادات السيادية الغير نفطية لايتجاوز 1% من إجماليها من 154 مصدر جباية بليبيا.

4- ما هو عجز الموازنة؟ ببساطة عندما تزيد النفقات عن الموارد، يولد العجز، عجز الموازنة: هو ذلك المفهوم الذي يتحدث الجميع عنه غالبا بالسوء، إلا أنه وفقا لعلم الاقتصاد والدراسات العلمية لا يوجد اتفاق على الحجم الأمثل للعجز، وبالمقابل لا يعد فائض الموازنة ، أو التوازن المالي، هو الوضع الأمثل بالرغم من تفضيله والسعي لحدوثه والحفاظ عليه، لأنه في بلد مثل ليبيا ثري ولديها فوائض ضخمة جدا بالميزانية العامة والاحتياطات وبالرغم من ذلك يرضخ 92% من سكانها تحت خط الفقر المحلي ولا يعرف الرفاه الاقتصادي، وكذلك واقعيا وضع نادر في الاقتصادات العالمية، وبالمقابل عمليا تستطيع الحكومات أن تعيش في حالة عجز مزمن، طالما تستطيع أن تسدد ديونها بانتظام، (ونسأل الله أن يحفظ بلادنا منه).

ومع ذلك هناك عيوب لعجز الموازنة، فهو يولد ضغوطا تضخمية، فلكي لا توصف الحكومة بالامبالاة او سوء إدارة الموارد أو التهور في صنع السياسة الاقتصادية، عليها أن توجه الإنفاق نحو الاستثمار، فإن ذلك من شأنه بناء طاقات انتاجية للمستقبل، فتقل آثار العجز التضخمي. إلا أن الجانب الجيد للعجز أنه يمثل تدفقا ماليا صافيا ينشط دورة الاقتصاد. وهكذا، يبقى على الحكومات دائما أن تخطط سياستها المالية بحسب حالة الاقتصاد: إذا أرادت تنشيط الاقتصاد، فأمامها أداتان: زيادة الانفاق العام وتخفيض بعض الضرائب، وتستطيع أن تمزج بينهما وتسمى “سياسة مالية توسعية”، والعكس إذا أرادت أن تحد من النشاط حتى لا ينفلت التضخم، تتبنى سياسة مالية انكماشية (يحدث هذا في حالة الصين مثلا، عندما تسارع النمو لسنوات طويلة وبمعدلات أعلى مما تريد الحكومة).بعض الإنفاق الحكومي الذي سبب العجز للميزانية العامة:- هبة للشعب التونسي 127 مليون د.ل.- هبة للشعب المورتاني 255 مليون د.ل.- هبة للشعب السوداني 127 مليون د.ل.- سفر ومبيت لمهام رسمية 250 مليون د.ل.- مصروفات ثقافة 240 مليون د.ل.- مصروفات أغطية ومفروشات للمدارس 479 مليون د.ل.- أغذية لغير العاملين 518 مليون د.ل.

5- ماهو الدين الحكومي؟ تماما مثل ديونك الشخصية هو هم بالليل ومذلة بالنهار، فبدل من أن يكون راسم السياسات الاقتصادية بالدولة يفكروا في تنمية وبناء البلد، نجد العكس عند البعض منهم، ففي 2014 حضرت ورشة عمل حول الاقتصاد الليبي، فتفاجئت بأحد المسئولين يقول: بأن ليبيا دولة ليست غنية، وعلينا اللجو للاقتراض من الخارج، حقيقة أن مثل هذا لم يكفيه سوء إدارة المال العام وتسرب احتياطياته، بل يريد أن يرحل الازمة للمستقبل، وتحميله للأجيال القادمة، إذا الدين الحكومي ببساطة يسمح للجيل الحالي بأن ينفق على حساب الأجيال القادمة التي سيكون عليها عبء السداد، لذلك يجدر بالحكومات أن تستأذن الشعب، عن طريق البرلمان والإعلام، قبل الاستدانة، وبعد أن توضح ضرورة هذه الاستدانة، وفيما ستنفق، وماذا سيعود على الشعب والأجيال القادمة من هذه الديون، يشرع في اختيار نوع وحجم الدين، فتراكم الديون على البلد (لاقدر الله)، نتيجته ستسدد فواتير سوء إدارة المال العام وإسراف حكومات العهود الحالية للاجيال بالمستقبل، وتستقطع الحكومات بالمستقبل جزء كبير من ميزانيتها لسداد فوائد الديون، هذا بالإضافة إلى أصل الدين الذي ستسدده على أقساط، إلا أنها تظل وقت طويل مدين بميالغ ضخمة.

ينقسم الدين الحكومي إلى:

1- دين محلي: وهو الدين بالعملة المحلية، ويرتفع عندما تبيع الحكومة أذونات، ويُسمح للبنوك العاملة في الدولة أن تشتري هذه الإذون (بأموال مودعيها من أفراد الشعب)، كما تبيع أحيانا أيضا الحكومة أوراقا طويلة المدى تعرف بسندات، وبلغ بليبيا سنة 2017 نحو 58 مليار دينار من سلف المصرف المركزي وحساب الاحتياطي العام (المجنب) وبواقي ارصدة الحسابات المصرفية، وسبب الدين المحلي هو الفساد وسوء إدارة الموارد. ولم تحتاج ليبي تقترض من الشعب عبر أصدار أذونات خزانة قصيرة المدى أو سندات خزانة طويلة المدى والسبب ما تتمتع به من ثروات طبيعية.

2- دين خارجي: هو الاقتراض الخارجي، ويكون الاقتراض الخارجي إما من دولة أخرى، أو من مؤسسات مالية مثل صندوق النقد الدولي، وفي الحالتين كلاهما له شروطه.