خبير نفطي يكتب : اقتراح تطوير نظام تسعيري مستقر بديل لنظام المضاربة الحالي القائم على سعر البرنت

116

كتب الخبير النفطي “محمد أحمد” أول اجتماع لمنظمة أوبك “أون لاين”: درس من التاريخ الظروف الكارثية قد تكون فرصة لتحقيق مكاسب نوعية

بعد أن وصل سعر برنت المؤرخ في سوق التسليم المادي الفوري نهاية الأسبوع الماضي 15 دولار للبرميل، اهتز بقوة النظام الاقتصادي والمالي العالمي ما أجبر رئيس الولايات المتحدة إلى تجرع السم ومطالبته منظمة أوبك وروسيا إلى العمل معا على التدخل لإنقاذ الصناعة النفطية. انخفاض الأسعار إلى هذه المستويات المتدنية لا يخدم أحدا على الاطلاق على المستوى الاقتصادي بالرغم من أنه أمنية طالما حلم بها مستهلكو النفط سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الدول.

انهيار الأسعار يعني إفلاس العديد من الشركات النفطية خصوصا في الدول ذات التكلفة الإنتاجية العالية في أمريكا الشمالية وشمال غرب أوربا، هذه الشركات تعمل في أغلب الأحوال بأموال تم اقتراضها من المصارف وهي تشكل نسبة عالية من الديون المربحة التي أقرضتها المصارف العالمية، تعثر الشركات سيعني بدون جدال انهيارات مصرفية كبيرة في وقت تقفل فيه مصادر التمويل البديل أبوابها أمام المصارف لمعالجة العجز.

استقرار السوق يتأتى عبر طريقين مفصولين (بمعنى أن تطبيق أحدهما يلغي تطبيق الآخر). الطريق الأول هو “إدارة السعر” والطريق الثاني هو “إدارة الإنتاج”، عبر تاريخ الصناعة النفطية تبادل الطريقان تأثيرهما على السوق عبر أدوات مختلفة تبدأ من الاحتكار الإنتاجي أو الكارتل (تاريخ روكفلر) ولا تنتهي بالسيطرة على وسائل النقل (تاريخ لجنة السكك الحديد في أمريكا) أو سيطرة الحكومات على الاحتياطات الحدية (تاريخ أوبك).

عملت كل أداة على فرض استقرار السوق والاسعار بطريقتها ولكن ديالكتيك الحياة وديناميكية السوق فرضت تغييرا مستمرا على الأدوات وآليات عملها.لن أسرد تاريخ صناعة النفط كاملا هنا ولكن اسمحوا لي بإثارة النقاط ذات العلاقة في هذا التاريخ التي تعتبر ذات صلة بالتحديات المستقبلية أمام الصناعة وأمام منتجي النفط بصورة عامة لفرض نظام تسعيري تستقر به السوق.

اليوم هناك سوقان للنفط “سوق ورقي” يعني بالمضاربة و “سوق فوري” يعني بالتسليم المادي، بالعامية لو أنك تشاهد الأسعار المنشورة في الشاشات فهي سعر الشهر الأول على السوق الورقي يعني لو أننا في أبريل فأن الأسعار المنشورة هي لتسليم مايو أو يونيو وهكذا.

هذه الأسعار لا تعكس السوق الحالي مثلا اليوم سعر السوق الفوري لبرنت المؤرخ 23 دولار للبرميل بينما السعر الورقي الآجل هو 33 دولار للبرميل، السوق الورقي أعتبر سوق مرجعية بسبب تخلي منظمة أوبك عن هيكل الأسعار الرسمية في منتصف الثمانينات بعد حرب الأسعار التي شنتها المملكة السعودية لاسترجاع حصتها في السوق الدولية للنفط. السوق المرجعي محوره سعر خام برنت بينما كان محور هيكل الأسعار الرسمية سعر خام العربي الخفيف. آلية التسعير لنظام برنت تعتمد على الفروق الزمنية المتوقعة لسعر النفط بينما هيكل الأسعار الرسمية لمنظمة أوبك كان يعتمد على فروق الجودة بين الخامات النفطية.

بينما كان السعر المحدد من المنظمة لسعر خام العربي الخفيف مطليقا وثابتا لفترة طويلة من الزمن (يعني مثلا 30 دولار للبرميل)، كانت السوق المستقبلية في البورصات العالمية تعطي مرونة كبيرة لتعويم السعر ربطا بالمستجدات في السوق.انهيار هيكل الأسعار الرسمية لمنظمة أوبك في رأيي الشخصي كان انعكاسا لتكاسل أعضاء المنظمة عن مجاراة العصر وتطوير نظام متجاوب مع السوق ربما بسبب الخلافات السياسية العميقة بين الأعضاء (حرب الخليج الأولى والثانية) مما أدى إلى عدم تخصيصهم الموارد الكافية للحاق بركب السوق المتسارع. أتذكر أنه كان هناك في المنظمة في منتصف الثمانينات برنامج كمبيوتر صمم لتحليل الاتجاهات في الأسعار وكان المشرف عليه الخبير الليبي “عبد الله المنقوش” ولكنه أنتهى في ادراج المكاتب نظرا لعدم تحمس قيادات المنظمة للمواصلة في هذا العمل وتحدي الآليات البديلة في تسعير النفط.كان البديل الأسهل للمنظمة التحول لما يعرف بآليات “إدارة الإنتاج” عن طريق توزيع الحصص الإنتاجية التي تحقق التوازن بين العرض والطلب على أساس أن أوبك كمجموعة هي المنتج المتأرجح في السوق. هنا يجب التفريق بين الآليتين.

الآلية الأولى “إدارة السعر” تعني تحديد سعر مطلق ثابت للنفط الخام ويترك مستوى الإنتاج لعملية السحب وفقا للطلب، الآلية الأخرى “إدارة الإنتاج” وتعني تحديد سقف انتاجي معين ثابت ويترك للسوق المفتوح تحديد السعر. بديل إدارة الإنتاج كان الحل الأسهل للمنظمة فهو يعفيها من الجهد الكبير الذي يتوجب عليها لتحديد اتجاهات الطلب والعرض ليس للخام فقط بل أيضا للمنتجات النفطية وتكاليف نقلها وتخزينها وسعات التكرير وطرق تجارتها وغيرها التي فعلا كان من قبل المستحيلات السبع تحقيقها آنذاك.كان المطلوب وجود سكرتارية صغيرة في مدينة فيينا بالنمسا تقدم عدد محدود من الدراسات للمجلس الوزاري السياسي الذي يختص بإصدار القرارات السياسية وتجنب إدخال هذه السكرتارية في إي أعمال تختص بالجانب التجاري.

حتى فكرة سعر “سلة أوبك” المتكونة من عدة خامات رئيسية في أوبك التي ظهرت لتفادي تركيز المسئولية على منتج واحد وهو المملكة السعودية استمرت كمؤشر افتراضي وليس له أي امتداد تجاري.اليوم الخلافات السياسية لاتزال موجودة، منهجية إدارة الإنتاج لفرض استقرار السوق تهتز بشدة وتحتاج إلى دعم منتجين خارج أوبك حتى تستمر، منهجية “إدارة السعر” تظهر رأسها من جديد كبديل ممكن للمساهمة في استقرار السوق النفطية خصوصا بعد نداءات من بعض الدول مثل الولايات المتحدة وكندا لفرض إجراءات منافية لنظرية السوق المفتوح بإمكانية فرض تعريفة جمركية على الواردات النفطية الرخيصة جدا من الشرق الأوسط.

ولكن هذا التحرك يحتاج إلى مساندة تقنية وفنية فعالة جدا وبإشراف جهاز فني محايد يمكن أن يكون جزءا من تجمع أوبك أو تجمع إنتاجي آخر تشترك فيه دول مثل روسيا والنرويج اللتان لازال يتبعون سياسة التسعير الرسمي للنفط المصدر. هذه الآلية والتي لا يتسع المقام هنا لشرحها يجب أن تزيح نظام برنت المترنح الذي أنفصل عن الواقع بتسجيله 10 دولارات فرق بين السعر الفوري والسعر الآجل (وهذا ببساطة يعني أن المضارب يسرق “قانونيا” عشر دولار/للبرميل من عائدات المنتج المستقبلية)، السؤال هل ستستطيع منظمة أوبك انتهاز الفرصة المواتية لتوجيه ضربة قاضية لآلية برنت، وفي اعتقادي أن النظام الرأسمالي سيقف في صفها في هذه المرحلة الانتقالية لتحجز لها مكانا في عالم ما بعد كورونا.