الترهوني: “ليبيا والثروات الطبيعية .. مفاهيم وتحديات!”

1٬263

كتب: د. عبد الله الترهوني – اختصاصي اقتصاديات النقل

مع تصاعد وتيرة الأحداث في ليبيا، تصاعدت حدة الخطاب وبرزت مفردات كانت مُحرمة حتى وقت قريب، وقد كنتُ ولازلت عند رأيي وهو أن النفط كــثروة قومية لعموم الليبيين لم يرتق لأن يكون نعمة بقدر ما كان أقرب لأن يكون نقمة عليهم .. وفي الأسطر القادمة من هذه المقالة سأتناول بعض القضايا والمفاهيم الهامة جداً ومن منظور القطاع العام فقط.

بقراءة بسيطة للتاريخ الليبي مطلع القرن العشرين نجد أن البلاد قد مرت بحرب أهلية طاحنة في ثلاثينات القرن الماضي تبعتها مجاعة، ليهتد الليبيون إلى طريق الرشد بواسطة ثلة من الخيرين من أبناء الوطن الصالحين من شرق البلاد وغربها، فجمعوا شتات الوطن، وقد تحملوا الأمرّين في ذلك، وذهبوا إلى أروقة الأمم المتحدة وعلى حسابهم الخاص وطالبوا باستقلال ليبيا، وتوجوه بإعلان الاستقلال .. وباقي القصة أنتم تعرفونها! .. وفي كل الأحوال ما يمكن قوله وفي عجالة هو أن ليبيا قد أصابها المرض الهولندي بعد اكتشاف النفط، وحولها إلى مجتمع استهلاكي وكسول، ومن ألطاف الله أن اكتشاف النفط في ليبيا قد تم سنوات بعد نيل الاستقلال وليس قبله.

لقد أوضح وبكل جلاء العلامة الراحل “مايكل بورتر” أن المشكلة في ليبيا تكمن في عقبات صناعة القرار، وأنه قد وصف الاقتصاد الليبي في العام 2007 بالاقتصاد التواكلي، حيث توفر الحكومة غالبية الوظائف للمواطنين، ناهيك عن الدعم الذي يتحصل عليه المواطن العادي على راتبه دون أن يحقق ذلك إنتاجية حقيقية للاقتصاد الوطني، فما بالك بالاقتصاد الليبي اليوم، وأضاف بورتر أن الشركات الكبيرة مثل شركات النفط والبتروكيماويات العالمية لن تكون قادرة على توفير الوظائف الكافية للقوة العاملة في المدى المتوسط على الاقل.

لقد أوضح الخبير المالي دكتور محمد أبوسنينة أن الدول التي لم تستغل إيرادات النفط في طفرة أسعاره خلال الثمانينات والتسعينات قد تجاوزتها التنمية، وأنه من الصعب عليها اللحاق بركب من سبقتها من الأمم، ورغم أن كلام الدكتور بوسنينة صحيح إلا أن ليبيا تُعد استثاءً منه لسببين اثنين: أولهما وهو أن الموقع الجغرافي لليبيا بحد ذاته قادر على خلق اقتصاد بديل وحقيقي، بعيداً كل البعد عن النفط والريع، والثاني هو الموارد الطبيعية المتاحة في ليبيا (غير النفط والغاز)، حيث أن مساحة البلاد وموقعها جعلها تزخر بالعديد من الثروات الأخرى مثل الرمال والتمور والخضروات والفواكه والثروة السمكية والخامات المعدنية…….إلخ ، ناهيك عن أن ليبيا من أكثر الدول سطوعاً للشمس في العالم وبالأخص في المناطق القريبة من مدار السرطان .. وعلى الرغم من هذا كله إلا أن ليبيا بلد شحيح المياه، كما ن عدد سكان ليبيا قليلون مقارنة بالمساحة والموارد المتاحة أو الممكنة، وما كان ينقص الليبيون منذ بدء تصدير النفط مطلع الستينات وحتى اليوم شيئين اثنين غاية في الأهمية: الأول هو كيف لهم أن يديروا مواردهم بالطريقة الصحيحة وأن يحققوا بعوائدها تنمية حقيقية ومجتمع مرفه، والثاني هو كيف لهم أن يحسنوا استغلال موقعهم الجغرافي في خلق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني وبالتالي تحقيق رفاهية أكثر؟؟؟؟

لقد نشر الدكتور نوري الفلو قبل نحو ثلاثة أعوام منذ الآن مقالاً مطولاً عن الرمال قي ليبيا ودورها في الاقتصاد في حال اذا ما تم استغلالها الاستغلال الأمثل، وقال أن الرمال في ليبيا هي كنز حقيقي ومستقبلي بحسب تقرير للمعهد الأمريكي للدراسات الجيولوجية والذي نشر في العام 1962 ثم أعيد نشره أربع مرات بين الأعوام 1975 و2008، وأن ما قاله الدكتور الفلو والمعهد الأمريكي ليس مزاحاً ولا حتى من باب الطرافة ولا التنذر، وإنما هو حقيقة علمية! .. واستطرد قائلاً لو أن الرمال الليبية تمتلكها دول مثل اليابان أو تايوان أو سنغافورة أو كندا لاستغلوها أحسن استغلال وفي مجالات عديدة، حيث أن مواصفات الرمال الليبية هي المطابقة للمواصفات المطلوبة للصناعات المتقدمة التي تدخل في مجال تحويل المواد إلى حالة البلازما، وبإمكانها أن تدخل في تصنيع كل القطع الالكترونية وبجودة عالية وتكلفة رخيصة وتستطيع أن تنافس بها أي صناعات متقدمة في العالم، وبسبب جودة الرمال الليبية فبإمكانها أن تكون عنصراً مهماً في صناعة تقنيات (متطورة) للزجاج لما تتميز به من ميزة تنافسية (مواصفات عالمية وجودة أفضل مما هو موجود بالأسواق العالمية) .. وأضاف الفلو أنه بإمكان الرمال الليبية الدخول كعنصر رئيسي في صناعات ناقلات الطاقة الكهربائية وبمقاومة تعادل صفراً (بدون مقاومة)، وعادمات الرطوبة الطبيعية، وفي صناعات الخزف المقاوم للحرارة ، وصناعات البلاستيك الصلب جداً والخفيف الوزن ، ويمكن أيضاً أن تدخل في صناعة هياكل السيارات والطائرات وواقيات المواد المشعة، وفي الاستخدامات الطبية من خلال تغيير تركيبة بلوراتها ومعالجتها لتصبح تستخدم في إيقاف النزيف دون أن يحدث أي ثلوت ولفترات طويلة، والكثير غيرها من الصناعات.

كما أشرت في صدر هذه المقالة أن هناك مفردات قد طفت على السطح وما كانت لتطفو لولا الفوضى التي عصفت بالبلاد، ولعل أبرز هذه المفردات هي الثروة والتوزيع العادل للثروة. في حقيقة الأمر، يبقى الفرق بين مفهوم الدخل ومفهوم الثروة من بين المفاهيم الأساسية التي يجهلها الكثيرون حتى أولئك الذين اعتلوا سدة الحكم في ليبيا بقدرة قادر.

وقد أوضح الدكتور والخبير “عبد الجليل أبوسنينة” الفرق الكبير بين الثروة والدخل، وأوضح بكل جلاء أيهما السبب وأيهما النتيجة، وذلك بقوله أن الثروة هي التي تولد الدخل، وأن الدخل هو قيمة مقيدة بفترة زمنية، وأضاف أن إيرادات النفط الليبي تعد دخلاً لأنها تدخل في ميزانية الدولة تحت بنود و أبواب الإنفاق سواء على النفقات الجارية أو النفقات الاستثمارية، وبالتالي فالثروة سبب والدخل نتيجة، وقد صب رأي الاستاذ عبد الحكيم التليب في هذا الاتجاه، حيث أوضح أن مفهوم توزيع الثروة في ليبيا Wealth Distribution قد طفا على المشهد بل وأنه صار الأكثر رواجاً هذه الأيام، وبالأخص بعد ظهور عدد من الأغنياء، مستغلين غياب الدولة في مقابل زيادة عدد الفقراء وتقلص أعداد الطبقة الوسطى في ليبيا كل يوم، وأوضح التليب أنه لا توجد ثروة بالمعنى الحقيقي في ليبيا، وأن هناك حاجة إلى خلق ثروة Wealth Creation وليس لتوزيعها، وأن ما تبقى من الموارد الكربونية المتاحة بالكاد تكفي لخلق فرصة أخيرة لهذا البلد للشروع في بناء قاعدة اقتصادية بديلة عن ”الاقتصاد الريعي ” أو ثروة النفط التي أصبحت أيامها معدودة على المدى المتوسط كحد أقصى.

كل المؤشرات والدلائل تدعونا إلى ضرورة الإسراع في تبني اقتصاد بديل في ليبيا، وقد كنت قد كتبت عن البدائل المتاحة للاقتصاد عبر أكثر من موقع ومن خلال أكثر من مقالة خلال العامين 2018 و 2019، بل إنني تعمدت إعادة نشر مقالتين عن الاقتصاد الأزرق وعبر أكثر من موقع الكتروني وحتى من خلال المطبوعات الورقية لأنني أرى أنه فرصة حقيقية وواعدة للاقتصاد الليبي، وذلك عبر استغلال الموقع الجغرافي للبلاد لخلق اقتصاد بديل وحقيقي وبعيداً عن الريع.

وقد أوصى “أبوسنينة” بضرورة استخدام عوائد بيع النفط في تكوين استثمارات مالية وأخرى صناعية، وذلك للحفاظ على الثروة ضمن مفهوم الثروة، ومن جانبي ، فأنا أتفق معه تماماً وأضم صوتي لصوته في ضرورة خلق اقتصاد بديل يعتمد على الأنماط الحديثة من الاقتصاد، وبالأخص الاقتصاد الذي يعتمد المراكز المالية واقتصاد المعرفة والاقتصاد الازرق بعيداً عن الاقتصاد الفيزيائي وعن الاقتصاد الريعي .. فاقتصاد الخدمات بكل فروعه ونشاطاته هو النمط السائد والمسيطر في عالمنا اليوم، كما دعا أبوسنينة إلى ضرورة تجنيب إيرادات النفط عن موازنة الدولة وعن الإنفاق الاستهلاكي الذي يميز المجتمع الليبي، وبما يحافظ على قيمتهما من ناحية، وبما يوفر عائداً مقبولاً مع بقاء تلك القيمة غير منقوصة من ناحية أخرى، وأن يتم استثمار ايرادات النفط التي هي ملك للأجيال الحاضرة والقادمة في صندوق سيادي حقيقي (بكل ما للكلمة من معنى) مثل ما يدار الصندوق النرويجي وليس كما يدار فائض العوائد النفطية الليبية بكل عبث منذ 2006 وحتى الآن، وبالتالي يمكننا استخدام عوائد هذه الاستثمارات في تمويل مشاريع ذات قيمة في الداخل، وبما يحقق قيمة مضافة وتدر عائداً، بشرط أن تصل هذه الاستثمارات أو العوائد لكل بقعة من التراب الليبي وبما يحقق العدالة الاجتماعية الشاملة والتنمية المكانية العادلة عند التوزيع مثل المصانع والطرق والموانئ والمناطق الحرة والموانئ الجافة ومزارع الطاقة الشمسية .. الخ، وبالتالي نكون قد انتشلنا بلادنا من المرض الهولندي الذي تعاني منه، بل وكرسنا المفهوم الحقيقي للثروة ولكن مع تغيير الشكل النمطي لها.

أختم بالقول إن الهدف المنشود من توزيع الثروة بمعناها الحقيقي هو توفير الوسائل العملية لأجل تحقيق أفضل مستوى ممكن من العدالة وبكل شفافية، والتي تعمل بدورها على عودة روح (المواطنة) إلى المواطنين بما يؤدي تلقائياً إلى عودة شعور ( الانتماء الحقيقي للوطن ) الذي لا غنى عنه لتحقيق السلام والاستقرار، والوصول لحالة الرفاه.