“محمد أبوسنينة” يكتب حول تعويم العُملة

448

كتب: الخبير الاقتصادي “محمد أبوسنينة”

كنت قد كتبتُ هذه المقالة عام 2016 حول تعويم العملة، وها أنا أعيد نشرها منقحة، لمن يريد الاطلاع والاستفادة ..

صار الليبيون يتساءلون هذه الأيام عن تعويم العملة متأثرين بالسياسات التى اتخدها البنك المركزى المصرى والتى انتهت إلى تعويم الجنيه ابتداءً بتخفيض قيمته بنسبة 45% ورفع معدل سعر الفائدة وما تبعها من إجراءات مالية تتعلق برفع أسعار المحروقات.

البعض يتساءل راغبا فى معرفة المزيد عن هذه السياسات والبعض الآخر يقدمها كحلول للمشاكل التى يعانى منها الاقتصاد الليبيى دون التفكير فى الأسباب التى دفعت البنك المركزى المصرى لهذه الإجراءات وطبيعة المشاكل التى بعانىً منها الاقتصاد المصرى ومتطلبات اللجوء إلى مثل هذه السياسة.

مقارنة بالاقتصاد الليبيى، والجدير بالذكر أن ما قد يصلح من سياسات اقتصادية فى بلد ما ليس بالضرورة أن يكون صالحا فى بلد آخر فلكل بلد ظروفه ومشاكله ومعطياته المختلفة ولا يصح التعميم دون قيد أو شرط ..

باختصار شديد، تعويم العملة يعنى ترك تحديد قيمتها أو سعرها فى مواجهة العملات الأجنبية لقوى العرض والطلب فى سوق النقد الأجنبى دون تدخل أو دعم من قبل المصرف المركزى إلا من خلال دوره كأحد اللاعبين فى السوق، فإذا زاد الطلب على العملة المحلية بمعدلات تتجاوز الطلب على العملة الأجنبية زاد سعر صرف العملة المحلية فى مواجهة العملة الأجنبية ومن ناحية أخرى إذا زاد الطلب على العملة الأجنبية بمعدلات تتجاوز المطلوب من العملة المحلية ارتفع سعر العملة الأجنبية مقارنة بسعر العملة المحلية، أى أن زيادة الطلب على العملة الأجنبية يعنى عرض كميات أكبر من العملة المحلية لمواجهة الطلب على العملة الأجنبية ومن تم انخفاض سعر العملة المحلية كما أن زيادة الطلب على العملة المحلية من قبل الأجانب يعني عرض كميات أكبر من العملة الأجنبية ومن ثم انخفاض سعر العملة الأجنبية فى مواجهة العملة المحلية.

ويتحقق ذلك عمليا من خلال زيادة الطلب الخارجى على المنتجات المحلية فى شكل صادرات، الأمر الذي يترتب عليه عرض كميات أكبر من النقد الاجنبى ومن تم انخفاض سعر النقد الاجنبى، وعندما يزداد الطلب على المنتجات الأجنبية الذى يترتب عليه ضرورة توفير كميات أكبر من النقد الاجنبى لسداد قيمة الواردات، فإن ذلك يعنى عرض كميات أكبر من العملة المحلية ومن تم انخفاض سعر العملة المحلية فى مواجهة العملة الأجنبية.

ولذلك تسعى الدول للرفع من إنتاجية اقتصاداتها والإنتاج بأقل تكلفة ممكنة حتى تكتسب ميزة تنافسية تجعل صادراتها رخيصة فى الأسواق الدولية ومن تم يزداد الطلب عليها وهذا يعني زيادة الطلب على العملة المحلية ومن تم ارتفاع سعرها بالمقارنة بالعملة الأجنبية.

وعلى هذا الأساس، حتى يمكن التفكير فى تعويم العملة المحلية لمواجهة الانخفاض الشديد فى سعرها فى السوق الموازية أو من ناحية أخرى ارتفاع سعر النقد الأجنبي في السوق الموازية مقارنة بالسعر الرسمى للعملة ولعلاج العجز الكبير فى ميزان المدفوعات نتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية وعدم قدرة المصرف المركزى على الدفاع عن قيمة العملة المحلية ، ينبغى اعادة هيكلة النشاط الاقتصادي ( economic restructuring) بحيث يكون الاقتصاد متنوعا، أى اقتصاد منتج ولديه أكتر من مصدر للنقد الأجنبي، كأن ينتج عدة سلع بميزة تنافسية بحيت تكون هذه السلع قابلة للتصدير ومصدرا لتدفق إيرادات النقد الأجنبي إلى الداخل أو أن يكون لدى الدولة مثلا قطاع سياحي يجذب السياح الأجانب الذين يحضرون معهم نقدًا أجنبيا أو تكون الدولة منتجا ومُصدرًا للخدمات التى تذر نقدًا أجنبيا وأن تكون هناك تحويلات من العاملين فى الخارج إلى البلد، بحيت يكون هنا أكثر من مصدر للنقد الاجنبي وهو ما يشكل جانب العرض من النقد الاجنبي داخل الاقتصاد، أما بالنسبة لمصادرالطلب على النقد الاجنبي فهى متعددة ومعروفة.

وفى مثل هذه الظروف عندما يعجز المصرف المركزي عن تثبيت قيمة العملة المحلية والدفاع عنها بسبب ضعف احتياطياته وتنامي التزاماته بالنقد الأجنبي ومحدودية حصيلة الصادرات وعندما يعجز عن سداد التزامات الدولة تجاه الدول الأجنبية والموردين الأجانب وتتدهور قيمة العملة الوطنية فى السوق يضطر المصرف المركزى، كما حدث في مصر، إلى اللجوء لسياسة تعويم العملة تاركا العملة المحلية فى مواجهة قوى السوق التى يمكن أن تهوي بها إلى أدنى المستويات فى حالة الاقتصادات الضعيفة ويمكن أن تلتقط العملة أنفاسها إذا كانت هناك عوامل تزيد من الطلب على العملة المحلية فى الداخل والخارج.

وحتى يمكن أن تحقق سياسة تعويم العملة أهدافها ينبغي أن يكون فى مقدور المصرف المركزي تطبيق السياسة النقدية المناسبة التي تمكنه من التحكم في عرض النقود فى الاقتصاد ومن تم التأثير فى معدل التضخم بل ينبغي أن تكون له القدرة على استهداف معدل التضخم الذي يراه المصرف المركزى معدلا مقبولا، وينبغي أن يكون هناك سوقًا نقديا فعالا يمكن من خلاله أعمال سياسة تغيير سعر الفائدة للتحكم فى عرض النقود من جهة ولتشجيع الادخار بالعملة المحلية ومن تم تشجيع الاستتمار والإنتاج من جهة أخرى.

وفى حالة الاقتصاد الليبي الراهنة لا يختلف اثنان بأن الاقتصاد الليبي يمر بأزمة خانقة، لعل أبسط مظاهرها العجز غير المسبوق في الميزانية العامة للدولة والعجز الكبير فى ميزان المدفوعات، في آن واحد، بالإضافة إلى تدهور قيمة الدينار الليبي وارتفاع سعر صرف النقد الأجنبي فى السوق الموازية مقارنة بسعر الصرف الرسمى وتناقص قدرة المصرف المركزي في الدفاع عن سعرالصرف الرسمى للدينار الليبي بسبب الضغوط التي تعرضت لها احتياطيات النقد الأجنبي لدى المصرف المركزي مما اضطره إلى فرض قيود على استعمالات النقد الاجنبي، ولا يختلف اثنان على أن سعر صرف الدينار الليبي الرسمى الحالى غير حقيقى ولا توازنى.

ولما كان المصدر الوحيد للنقد الاجنبي هو تصدير سلعة واحدة وهى النفط الخام ولا توجد صادرات ليبية أخرى مهمة تولد نقدًا أجنبيا ولا توجد خدمات يصدرها الليبيون إلى الخارج ولا يوجد عاملون ليبيون فى الخارج يحولون دخولهم بالنقد الأجنبي إلى ليبيا عبر القطاع المصرفى بشكل منتظم، فقد صار المصرف المركزى هو المالك الوحيد للنقد الأجنبي وهو العارض الوحيد للنقد الأجنبي فى الاقتصاد وكل التمويلات بالنقد الأجنبي فى الخارج يوفرها المصرف المركزى، ولا يوجد مصدر آخر للنقد الأجنبي فى السوق إلا من خلال السوق السوداء للعملة الأجنبية، لذلك فإن آلية العرض والطلب التى يمكن من خلالها تعويم الدينار الليبي غيرة متوفرة، حيت توجد عدة مصادر للطلب ومصدر واحد فقط للعرض، بمعنى آخر الأمر فى يد من يملك النقد الأجنبى وهو المصرف المركزى، كما أنه لا يوجد مجال لاستهداف معدل التضخم أو التحكم فيه لعدم إمكانية إعمال أدوات السياسة النقدية اللازمة للتأثير فى الائتمان المصرفى والتحكم في عرض النقود في الاقتصاد .. وعلى هذا الأساس لا مجال للحديث عن تعويم الدينار الليبي لمعالجة الأزمة التي يمر به الاقتصاد الليبي.

إن الحديث عن التعويم يقصد به الحديث عن نظام الصرف المتبع، ونظام التعويم هو النقيض لنظام سعر الصرف الثابت، وبينهما نظام الصرف المدار، ليبيا تتبع نظام سعر الصرف الثابت الذى يتم فيه ربط قيمة العملة بما يعرف بحقوق السحب الخاصة ( عملة صندوق النقد الدولي ) وهى عبارة عن سلة من العملات الأجنبية الرئيسية القابلة للتحويل بأوزان مختلفة فى مقدمتها الدولار الأمريكى، ونظام سعر الصرف الثابت يعتبر مناسبا للدول التي تعتمد على تصدير سلعة واحدة مثل النفط، أي الاقتصادات غير المتنوعة، لأنه يوفر قدرا من الاستقرار لقيمة العملة، ولكن فى ظل نظام سعر الصرف الثابت هناك مجال لتغيير القيمة التعادلية للعملة بوحدات حقوق السحب الخاصة دون المساس بنظام الصرف.

فعندما يتم تخفيض القيمة التعادلية للعملة نسبة إلى حقوق السحب الخاصة فإن ذلك يعني عمليا تخفيض سعر صرف العملة المحلية نسبة للعملة الأجنبية، ونسبة التخفيض يتحكم فيها المصرف المركزي وفقا لما يراه مناسبا لمعالجة المشكلة القائمة، وإذا ما تم تخفيض سعر صرف العملة إلى مستوى سعر الصرف التوازني فإن ذلك يتبعه بالضرورة رفع القيود على الطلب على النقد الاجنبي، والتحرير الكامل لعمليات الحساب الجاري.

ولكن هذه السياسة أى تخفيض قيمة العملة فى الحالة الليبية، رغم أنها مطروحة للنقاش على مستوى المصرف المركزى، ولدى المهتمين بالإصلاح الاقتصادي، وهناك حاجة للجوء إليها، فهي من ناحية أخرى ليست متاحة بدون شروط أو متطلبات حتى تؤتي ثمارها، فإذا علمنا أن الانخفاض فى سعر صرف الدينار الليبي فى السوق الموازية او بمعنى آخر ارتفاع سعر النقد الأجنبي فى السوق الموازية مقارنة بالسعر الرسمي للدينار هو انعكاس للعجز الكبير فى الميزانية العامة للدولة، التي تشكل المصدر الرئيسي للطلب على النقد الاجنبي ، وانعكاس للعجز الكبير فى ميزان المدفوعات ، للعديد من الأسباب التى يأتي في مقدمتها انخفاض إيرادات النفط ، المصدر الوحيد لتمويل الميزانية وتوفير النقد الأجنبي لمختلف الأغراض ، مع ارتفاع فاتورة الدعم التي من أهم مكوناتها دعم المحروقات التي يتم استيرادها من الخارج ، فإن اللجوء إلى تخفيض سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي وما يتبعه من رفع القيود على استعمالات النقد الاجنبي دون العمل على تخفيض العجز فى الميزانية العامة للدولة باستخدام السياسات المالية المناسبة الكفيلة بتخفيض الانفاق العام والتخلص من دعم المحروقات ، ودون العمل على تصحيح الخلل فى الميزان التجارى بميزان المدفوعات باستعمال السياسة التجارية ، يعنى عمليا المجازفة بإدخال الاقتصاد فى حالة من عدم الاستقرار وخلق بيئة تضخمية يفقد فيها الدينار الليبي المزيد من قيمته بمعدلات أعلى مما هى عليه الآن، فيزداد العجز فى الميزانية وترتفع فاتورة الواردات ويزداد تبعا لذلك العجز التجارى ، مما قد يضطر المصرف المركزي إلى المزيد من التخفيض فى السعر الرسمي لصرف الدينار الليبي، ولن يستطيع الدفاع عن قيمة الدينار عندما تنهار احتياطيات النقد الأجنبي لديه بسبب الصرف المستمر منها في ظل رفع القيود على استعمالات النقد الاجنبي ، وعدم وجود دخل من النقد الأجنبي يغذى هذه الاحتياطيات، وفى هذه الحالة لن يتعدى تخفيض سعر صرف الدينار الليبيى مجرد فرض ضريبة إضافية يتحمل أعباءها المواطن المنهك أصلا بارتفاع مستوى الأسعار ، رغم أنه لا مناص من إصلاح سعر الصرف وتحديد مستواه التوازني وتطبيقه على كافة المعاملات والقطاعات على حد سواء لمجابهة التشوهات التي يعاني منها الاقتصاد الوطني والخروج من الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها.

لهذه الأسباب تتطلب سياسة سعر الصرف تكامل أدوار كافة مؤسسات الدولة ( وزارة المالية و وزارة الاقتصاد والمصرف المركزي ) .. وأن تكون هناك حكومة راتبة تستطيع فرض احترام السياسات الاقتصادية والدفاع عنها.