المناطق الحرة ودورها الاقتصادي! .. “الجزء الثاني”

1٬019

كتب: د. عبدالله ونيس الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل

تناولت في الجزء الاول من المقال أهداف وأنواع ومحددات وبعض المفاهيم ذات العلاقة بالمناطق الحرة، وفي هذا الجزء سأتناول بعض الإعفاءات الجبائية الممنوحة للمناطق الحرة ودورها في جذب الاستثمار، مروراً بشرح وافي للمناطق الصناعية، ثم الدور الذي يمكن أن تلعبه المناطق الحرة في الاقتصاد الليبي في قادم السنوات.

على الرغم من أن نجاح المناطق الحرة في العالم لا يتوقف على الإعفاءات الجبائية فقط والتي تعمل على جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، إلا أن تظافر مجموعة من العوامل مثل الموقع الجغرافي، وتوافر الأمن، وتوفر التشريعات، والاستقرار السياسي هي من بين عدد من العوامل الأساسية لإطلاق أي منطقة حرة تجارية أو صناعية، وفي كل الأحوال فإنه يقع على عاتق القائمين على إدارة أو تسيير هذه المناطق أي كان مسماها ما يلي:

1-  رسم استراتيجية واضحة المعالم، والتي تعد من أهم أسباب نجاح المناطق الحرة في تحقيقها لأهدافها.

2-  التقيد بإعفاء البضائع الواردة للمنطقة الحرة أوالمصنعة فيها من الضرائب و/ أو الرسوم الجمركية، على أن يسري هذا الإعفاء على البضائع التي يتم استهلاكها أو استعمالها داخل المنطقة الحرة.

3-  التقيد بإعفاء الشركات والأفراد من دفع أي نوع من الضرائب بما في ذلك ضريبة الدخل، على أن تكون هذه الإعفاءات محددة بسقف زمني وهو الغالب.

 بالإضافة إلى ما تقدم من إعفاءات فإن بعض المناطق تمنح إعفاءات من رسوم التسجيل والقيد، وفي المجمل فإن هذه المناطق تُقدم نوعيْن من الملكية وذلك في ظل وجود شريك محلي أو حتى بدونه وهما الملكية الكاملة أو الجزئية لرأس مال الشركات القائمة فيها، هذا بالإضافة إلى حرية تحويل رأس المال والأرباح والأجور للمشروعات والأفراد دون أي قيود، وبالتالي فإنه في ظل وجود هذه الميزات وجب التركيز على اختيار نوع الاستثمار أولاً قبل كل شئ، ثم حجمه ثانياً، بحيث لا تُعطى الأولوية للثاني على حساب الأول، على أن يتضمن ذلك مطالبة الشركات بإعطاء فكرة واضحة ومفصلة عن خطتها حول كيفية الاستثمار بالمنطقة الحرة.

المناطق الصناعية

تساهم المناطق الاقتصادية أو المناطق الاقتصادية الخاصة إلى حد كبير في زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وخلق فرص عمل، وتطوير الصناعات والخدمات في البلد المضيف، وزيادة التنوع الاقتصادي فيه، وزيادة مساهمة اقتصاد الدولة في سلسلة القيمة العالمية، مما ينعكس إيجابًا على النمو الإقتصادي بالتوازي مع خلق نوع من التنمية في البلد المضيف، وفي المقابل فإنه لا توجد ضمانات بأن تحقق المناطق الاقتصادية الخاصة كل أهدافها لتكون قصص نجاح تُروى، ففي بعض الحالات تكون معدلات النمو بالمناطق الاقتصادية الخاصة قريبة جدًا من معدلات النمو في داخل الدولة المضيفة رغم كل ما تتمع به من ميزات وإعفاءات، بل وقد تفشل أيضًا هذه المناطق في توزيع مكتسبات التنمية خارج حدودها، وفي المجمل تُعتبر المناطق الصناعيّة أو المناطق الصناعية الخاصة من أهم المشاريع الاقتصاديّة أوالأفكار التي تنفّذها الدولة بهدف تطوير القطاع الصناعيّ فيها بشكلٍ خاص، وكمصدر دخل إضافي، وهي بذلك تهدف لمعالجة المشاكل الاجتماعيّة والاقتصاديّة للبلد بشكلٍ عام لأنها تعمل على استيعاب عدد لابأس به من الأيدي العاملة وبالأخص الفنيّة منها، وتجدر الإشارة إلى أن تقرير الاستثمار العالمي الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) قد أشار إلى تراجع وتيرة الاستثمارالأجنبي المباشر في العالم إلى حدود 1.3 تريليون دولار بنهاية العام 2018 مقارنة مع 1.5 تريليون دولار كان قد سجلها في العام 2017، وبحسب نفس التقرير فقد بلغ عدد المناطق الاقتصادية الخاصة حول العالم ما مجموعه 5400 منطقة تنتشر في 147 دولة، مقارنةً مع 4000 منطقة اقتصادية خاصة كان قد سجلها في العام 2014، كما يوجد اليوم أكثر من 500 منطقة صناعية خاصة قيد الإنشاء، وهذا يعكس التنافس الكبير بين مختلف دول العالم من أجل استقطاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

أهمية المناطق الصناعيّة

إجمالاً تعمل المناطق الصناعية كنوع من أنواع المناطق الحرة على خلق قيمة مضافة للاقتصادات الوطنية، وذلك من خلال جذب المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء، وهي تعمل أولاً على توفيّر البنية التحتية الأساسية لاستئناف عملها من طرق، وكهرباء، وتوصيلات المياه، وتوفير شبكات الاتصالات، والربط بمصادر الطاقات سواء كانت من مصادر تقليدية أو من الطاقات الجديدة والمتجددة … إلخ، وبما أن هدف أي مشروع اقتصادي هو التخفيف من نسبة البطالة إذن هي بالضرورة ستعمل على توفير فرص عمل، بالإضافة إلى العائد المادي المرجو من إنشائها، وتجدر الإشارة إلى أن وجود المناطق الصناعية خارج المدن بهدف إلى تقليل التلوث والضوضاء في داخل المدن، ومن ثم تقديم جميع الخدمات الصحية والتعليمية والمالية والاجتماعية للعاملين وأبنائهم في هذه المناطق بطريفة أيسر، كما أنها تساهم أيضاً في إعادة توزيع السكان خارج المدن والذي يؤدي بدوره إلى الرفع من مستوى الأمن الديموغرافي والقومي للبلد.

تخطيط المناطق الصناعيّة

إذا ما كان الموقع الجغرافي هو المفتاح أو كلمة السر في نجاح المناطق الصناعية، فإن فرص نجاح المناطق الاقتصادية الخاصة في تحقيق أهدافها يكمن في وجود إطار عام، واستراتيجية عند تصميمها وعند إنشاءها، والتي يجب أن تراعي الواقع المحيط بها داخل الدولة كسياسات الاستثمار، والهيكل الضريبي، وطبيعة النشاط التجاري للدولة نفسها.

إن من أهم الاعتبارات عند التفكير في إنشاء المناطق الصناعية هو تخطيطها وإدارتها بكفاءة، فإنشاء المناطق الصناعية يتم بهدف القيام بوظائف محددةً بدقة وكفاءة عالية مع عدم الإضرار بالبيئة أو المناطق التي حولها، حيث لا يتمّ إنشاء المدن الصناعية بشكلٍ عشوائي، بل يعتمد الأمر على دراسات طويلة ومتشعبة ومعقدة أو (عدد من المراحل والخطط)، مع توفر عوامل وشروط محددة، فمتطلبات إنشاء المدن الصناعية تشمل وكما أسلفنا الموقع الجغرافي الذي يشمل الموضع ومساحته وخصائصه الجغرافيّة والاقتصادية (والأمنية أحياناً) ، كما يشمل أيضاً موقعها بالنسبة للبنية التحتية القريبة منها، والذي بدوره يقلل من كلفة إنشائها، فالمصانع والمعامل تحتاج لبنية تحتية، وعلى مدى توفر وسائل النقل الذي يُعد أمراً حيوياً هو الآخر، كما أنّ بعض الصناعات هي في حاجة لوسائل نقل خاصة لمنتجاتها، وعلى مدى توفر مصادرالطاقة سواء كان نفط أوغاز أو كهرباء، مع الأخذ في الاعتبار تقدير معدل التلوّث والضوضاء الناتج عنها، ومقدار خطورته على البشر وعلى البيئة المحيطة، وهذا الأمر بحاجة لدراسة مستفيضة وتخطيط مُسبق يشمل كيفية التخلص من النفايات والدخان، وذلك لضمان عدم إحداث أضرار بالبيئة، وخاصةً الصناعات الكيماوية والنفطية، ومن أهم عوامل النجاح الحاسمة للمناطق الحرة بكل مسمياتها هي وجود إطار تشريعي متين، ومدى توفر مؤسسات قوية وبالأخص المالية منها، وتوفر حاكمية جيدة تكون مرتبطة بهذه المناطق، أضف إلى ذلك ضرورة بناء هذه المناطق بالاعتماد على الميز التنافسية للبلاد سواء كانت المتوفرة حالياً أو حتى تلك الممكنة في القريب العاجل، وقد أوصت بعض الدراسات بأن يُراعي عند بناء أو تشييد هذه المناطق استدامتها المالية، بحيث لا تصبح مكلفة مادياً، حيث أن الدعم المالي الحكومي المستمر لها، أو المبالغة في المواصفات قد يقلل من جدواها المالية، ويحولها من مورد إلى عبء على كاهل الدولة، ومن الحكمة يجب أن تتكامل أو تترابط المناطق الاقتصادية مع المناطق الحرة سواء التجارية أو الصناعية الأخرى في نفس البلد.

أنواع المناطق الصناعية

مما تقدم يمكننا أن نستنتج أن المناطق الصناعية تنقسم إلى نوعين اثنين هما:-

1- مناطق صناعية ساحلية: وهي تلك المقامة على الساحل وقد تكون جزءًا من ميناء بحري مثل المنطقة الصناعية المريسة ( قيد الإنشاء) أو المنطقة الصناعية بميناء جبل علي بدولة الإمارات.

2- مناطق صناعية داخلية (غير ساحلية): وهي تلك المقامة بعيداً عن الساحل، وقد تكون بطريقة أو بأخرى مربوطة بميناء بحري أو جوي، ومن أمثلتها المنطقة الصناعية 6 أكتوبر وحلوان بمصر، والمنطقة المقترحة بتازربو في جنوب شرق ليبيا.

الاقتصاد الليبي والمناطق الحرة

لا يختلف عاقلان اثنان على أن موقع ليبيا الجغرافي المميز، وثرواتها الطبيعية سواء المستغلة منها أو غير المستغلة هي سبب من أسباب ما تعانيه البلاد والعباد، وما تصريح بوريس جونسون عندما كان وزير خارجية بريطانيا عن ليبيا وموقعها الجغرافي في أكتوبر 2017، ثم زيارته لها في منتصف العام 2018 إلا دليل قاطع لا يقبل الشك على أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه ليبيا في الاقتصاد العالمي انطلاقاً من موقعها الجغرافي وليس من مواردها الطبيعية (كما يظن البعض)، وفي المقابل فإن سوء إدارة مورد النفط الليبي وتحوله من ثروة وطنية إلى مجرد مصدر دخل (لليبيين الأحياء الآن فقط) كان سببه الليبيون أنفسهم، مما يجعل التفكير وبجدية في خلق اقتصاد بديل للاقتصاد الريعي القائم على استخراج وبيع المنتجات الطبيعية الهيدروكربونية هو مطلب مُلح، بل وشِق هام من برنامج وطني يقع على عاتق النُخب الاقتصادية وأصحاب العقول من أبناء ليبيا، ومن جانب آخر يمكننا القول أن الاقتصاد أصبح هو الإطار الذي تعمل فيه السياسة وساسة الأمر الواقع في ليبيا، وكنتُ قد أشرت مراراً إلى ضرورة تبني اقتصاد بديل في ليبيا وبما يخدم أمنها القومي، وبالتالي وعطفاً على كل ما تقدم فإنه في حال تبني فكرة إقامة عدد من المناطق الحرة التجارية في المنافذ البرية والبحرية أو بالقرب منها أو المناطق الاقتصادية (وفقاً للشروط والمحددات التي سلف ذكرها) فإنني أرى عدداً من الفوائد الهامة التي ستجنيها دولة ليبيا منها:-

1-      خلق اقتصاد جديد ومتنوع بعيداً عن المصادر الطبيعية الهيدروكربونية.

2-      ينتج عن خلق اقتصاد متنوع بشقيه الأصيل والمتمثل في الزراعة والصناعة، والبديل والمتمثل في الخدمات انتهاء جدلية الصراع على مفهوم اقتسام الثروة عند الليبيين والمتمثلة في عوائد بيع النفط والغاز، وهذا الاقتصاد المنشود سيعمل بدوره على تحويل ليبيا إلى دولة ذات اقتصاد حقيقي وفاعل من جهة، ومن جهة أخرى سيكون العائد منه مساوي لمقدار الجهد الذي يبذله الأفراد.

3-      تعزيز الأمن القومي من خلال تعزيز الأمن الديموغرافي وبالأخص في جنوب ليبيا، حيث ستعمل المناطق الحرة التجارية منها أو الصناعية على حد سواء المتركزة في الجنوب الليبي على جذب المزيد من الأيدي العاملة إلى هذه المناطق، والتي تعاني من موجات هجرة سكانها الأصليين نحو الشمال.

4-      خلق قاعدة اقتصادية قوية، وضمان حماية الاقتصاد الليبي في المستقبل ( وهو المشوه حالياً بسبب المضاريات والتهريب والناتجان عن وجود أكثر من سعر للصرف، ووجود أيضاً دعم حكومي كبير للدواء والوقود) ، فمن خلال إقامة مناطق تبادل تجاري حر في النقاط  الحدودية الليبية مع دول الجوار فسوف تضمحل ظاهرة التهريب إلى أن تختفي تماماً.

5-      تنشيط حركة المطارات الليبية، ثم تحولها لمطارات عبور عالمية.

6-      تسويق المواد الخام والمواد الأولية الليبية إلى المناطق الصناعية الحرة، إما لغرض تصنيعها ثم إعادتها للسوق المحلي أو لغرض تصديرها، ونذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: التمور وزيت الزيتون والطماطم والأسماك، بالإضافة إلى خام الحديد والرخام والرمال التي تدخل في الصناعات الالكترونية.

7-      تحول ليبيا إلى سوق عالمي كبير بحكم موقعها كبوابة لقارة أفريقيا من الشمال، ثم تحولها كمعبر للبضائع الأوربية إلى وسط أفريقيا، وما سينتج عن ذلك من فوائد لدولة ليبيا سواء كانت مباشرة وغير مباشرة، بالإضافة إلى انضمامها فعلياً لطريق الحرير الجديد وهو البعيد عنها الآن.


الجزء الأول من المقال: