“أبوسنينة”: كيف ننقد الاقتصاد الليبي من مآلات الانهيار !!؟

539

كتب الخبير الاقتصادي “محمد أبوسنينة” مقالاً بعنوان: كيف ننقد الاقتصاد الليبي من مآلات الانهيار !!؟

(دعوة ملحة للبدء الفوري في وضع رؤية لمستقبل الاقتصاد الليبي والبدء في تنفيذها ، ومعالجة المختنقات التي يعاني منها )

من حق كل من يعنيه حال البلاد ووضع اقتصادها أن يتساءل ، هل الاقتصاد الليبي في أزمة ، وأنه يتعرض لمخاطر نظامية قد تؤدي به للانهيار ؟ وما هي الموشرات الدالة على الازمة ؟ ولماذا الدعوة لانقاد الاقتصاد الوطني ؟ اليس الاقتصاد بخير ؟ والناس في رغد من العيش ، وان تصدير النفط مستمر وفي تزايد ، وان قيود النقد الاجنبي مرفوعة ، والاعتمادات المستندية تفتح لتوريد السلع بدون حدود ، ومصروفات الحكومة في تزايد والانفاق العام مستمر ، والدعم مستمر ، و سعر البنزين والديزل الاقل والارخص من اية دولة اخرى على مستوى العالم ، وسعر لتر البنزين المستورد ارخص من سعر لتر الماء ، والمرتبات ترفع من وقت لاخر بما في ذلك الحد الادنى للاجور ، وابواب الحكومة مفتوحة للتشغيل في القطاع العام حتى وصل عدد من يتلقون مرتبات من الخزانة العامة 2.8 مليون عامل وموظف ، والتوسع في العمل بالخارج في السفارات مستمر ، والاجسام الادارية والاجهزة والوحدات الادارية العامة تستحدث وفي تزايد ، والرسوم الجمركية المحصلة في حدها الادنى ، والضرائب في حدها الادنى ، والناس عايشة ( واللي عاجبته حاجة يديرها ) ، والتعامل في السوق السوداء للنقد الاجنبي موجود وغير مقيد وشركات صرافة ، او محلات ( دكاكين ) فاتحة ابوابها وبدون تراخيص ، وفوق الطاولة ، واذا حدث عجز في ايرادات النقد الاجنبي فالاحتياطيات موجودة ويمكن التغطية منها ، اذاً ماهي المشكلة ؟

المشكلة هي كل ماذكر اعلاه !! لماذا ؟ اقتصاديا يعتبر أي اقتصاد في ازمة ، عندما ينخفض معدل النمو الاقتصادي في اكثر من سنة ، او انه يتوقف على عامل متغير واحد غير مستقر ، وعندما يكون هناك عجز في موازنة الحكومة تتم تغطيته بالاقتراض بشكل منتظم ، وعندما تكون الموارد بالنقد الاجنبي غير كافية في مواجهة استخدامات النقد الاجنبي ، ويظهر عجز في ميزان المدفوعات ، وعندما تتدنى الانتاجية في الاقتصاد ، وعندما يكون معدل البطالة اعلى من المعدل الطبيعي ، اي فوق 7% , وعندما يكون معدل التضخم مرتفع او في تزايد مستمر ، وعندما يكون معدل انكشاف الاقتصاد على العالم الخارجي مرتفع وفوق 60% , وعندما يكون سعر الصرف الرسمي للعملة الوطنية غير حقيقي او غير تعادلي ، وعندما تكون نسبة الدين العام اضعاف مضاعفة للناتج المحلي الاجمالي ، وعندما تكون التنمية غير مستدامة ، وعندما يفتقر الاقتصاد للاستقرار . ولا يشترط تحقق كل هذه الموشرات حتى نعتبر الاقتصاد في حالة ازمة ، يكفي تحقق بعض منها والتي تتعلق باساسات الاقتصاد الكلي .
اذا لماذا نهتم بوضع الاقتصاد الليبي وننبه الى ما قد يعترضه من مخاطر ؟


أولاً : لان كل الدول وحكوماتها التي تحرص على رفاهية مواطنيها واستقرار اقتصاداتها وتعمل على حفظ حقوق الاجيال القادمة ، تعمل وفقاً لرؤى تحضى بتوافق مجتمعي ، وتشريعات ملزمة للجميع ، وتعتمد دراسات استشرافية تؤسس عليها استراتيجيات وبرامج تصب في اتجاه تعزيز النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة . فاين نحن من ذلك ؟
و لان اوضاع ومعطيات اقتصادية على النحو الذي نعيشه اليوم وتم توضيحه ، وعلى هذا المنوال ، لابد ان تصاحبها اثار وتترتب عليها نتائج اعتقد انها ليست في صالح الاقتصاد الوطني ، ولا تخدم مصلحة المواطن ، على المدى المتوسط والبعيد ، لماذا ؟
لان الاعتماد الكلي على ايرادات تصدير النفط والغاز ، يجعل المالية العامة معرضة للصدمات ، ويضل الاقتصاد في حالة عدم استقرار ، اذا زادت ايرادات الحكومة بسبب زيادة الدخل من النفط توسعت الحكومة في الانفاق ، واذا انخفضت ايرادات الحكومة بسبب تدني الدخل من النفط النفط ، إمّا ان تتوقف او تؤجل بعض النفقات العامة وتتدهور الخدمات العامة ، او تضطر الحكومة للاقتراض ، وهذه سياسة تتعارض مع قواعد واسس ادارة المالية العامة . ومن اين تقترض الحكومة اذا اضطرت لذلك ؟ لا ملجأ للحكومة ، في الحالة الليبية ، الا الاقتراض من المصرف المركزي ، رغم ان ذلك يعتبر مخالف لصحيح القانون ! وهو الامر الذى خبرناه منذ عام 2014 شرقا وغربًا. واذا كان الامر مخالف للقانون وفقا لاحكام قانون المصارف وقانون الدين العام ، ماذا يمكن للحكومة اللجؤ اليه حتى لاتقفل الحكومة ؟ في ظل الاوضاع العادية تطلب الحكومة من السلطة التشريعية تخصيص موارد اضافية للميزانية او الاذن بالنقل من باب الى اخر ، واذا تعذر ذلك في هذه الحالة على الحكومة مراجعة سياساتها ، ووضع اولويات للانفاق ، والالتزام بما هو مبرمج في الميزانية العامة ، وتقوم بترشيد الانفاق العام والرفع من كفاءة مصروفاتها ، والتوقف عن التوسع في استحداث مراكز تكلفة جديدة وضبط نفقاتها وان تبدا الحكومة بنفسها اولاً.
وجب التنبيه ايضاً لان رقم الدين العام التراكمي ( شرقا وغربا ) قد وصل الى اكثر من 126% من الايرادات المتاتية للخزانة العامة ، ووصل رقم الدين العام الذي رتبته الحكومة في غرب البلاد الى ما نسبته 70% من الناتج المحلي الاجمالي ، واذا ما اضيف اليه الدين العام الذي رتبته الحكومة المؤقتة في المنطقة الشرقية ربما تجاوزت نسبته 150% من الناتج المحلي الاجمالي ، وقد وجه معظمه لاغراض استهلاكية وتسييرية.
ولماذا يمكن ان تنخفض ايرادات النفط ؟ لان اسعار النفط تتحدد في الاسواق العالمية ولا سيطرة للمؤسسة الوطنية للنفط ، التي تبيع النفط ، على هذه الاسعار . وهذه الاسعار اتجاهاتها نحو الانخفاض ، بسبب المنافسة التي يتعرض لها النفط كمصدر للطاقة ، في مواجهة مصادر الطاقة البديلة والنظيفة ، ولان التقدم التقني والتطور السريع في تكنولوجيا وسائل النقل ينمو بسرعة وهناك قيود قادمة على استعمالات الوقود الاحفوري لاعتبارات بيئية ، ولان سوق النفط العالمية ( الكميات المنتجة منه ) صارت تخضع لمتغيرات اخرى غير اقتصادية ولكنها مؤثرة . ولان استخراج النفط الليبي وتصديره تحكمه عوامل فنية كثيفة براس المال ، قد تعجز المؤسسة الوطنية للنفط عن توفيرها . واذا سخرت المؤسسة ايرادات النفط ، او بعض منها ، لتغطية مصروفاتها التشغيلية والاستثمار لتطوير القدرات الانتاجية للمؤسسة ، قد لا يتبقي من ايرادات ان النفط شىء يكفي لتمويل النفقات العامة ، بالوتيرة المتبعة اليوم . ولان النفط مورد ناضب على المدى الطويل . ولذلك فان خضوع الانفاق العام ومسايرته للاتجاهات الدورية يجعل المالية العامة غير قابلة للاستدامة ، وتشير التقارير الى انه في حال انخفضت اسعار النفط تحت سقف 60 دولار للبرميل ، قد يتعذر على الحكومة الايفاء بدفع فاتورة المرتبات التي تشكل اكثر من 60 % من اجمالي الانفاق العام .
ولان الاقتصاد الليبي ، رغم مرور اكثر من سبعين عام على قيام دولة الاستقلال واستخراج وتصدير النفط مند اواخر الخمسينيات من القرن العشرين ، ظل معتمدا على النفط كمصدر وحيد للدخل ، ولم تبدل جهود حقيقية لتنويع الاقتصاد ، ولازالت الرؤية غير واضحة لمختلف الحكومات ، فيما اذا كان التنويع ينبغي ان يكون افقياً او ينبغي ان يكون راسياً ، او مختلطاً ، وفيما اذا كان هدف التنويع الاقتصادي يشكل اولوية للحكومة ومؤسساتها المعنية ، رغم الدراسات والمؤتمرات والندوات التي عقدت على مر العقود حول هذا الموضوع ، ومند عام 1992 واخرها كان عام 2019 .
ولان مقايضة النفط الخام بالمحروقات المستوردة فيه تكريس لتبعية الاقتصاد الليبي لاقتصادات الدول المصدرة للمحروقات ، وبه تشوه في توفير سلعة استراتيجية ( المحروقات ) خصوصا وان هذه السلعة مدعومة ، وحجم الدعم كبير ويتمتع به الليبيين والاجانب على حد سواء . وفي هذه الحالة فان بيانات وارقام الانفاق العام لم تعد معبرة ، ولايمكن ان تؤسس عليها سياسات واضحة ، حيث لا تتضمن قيمة المحروقات التي يتم استيرادها بالمقايضة ، ولا تتضمن مصروفات المؤسسة الوطنية للنفط .
ولان البنزين يباع بسعر اقل من سعر الماء مما يجعله قابلا للتهريب ، ومغرياً ، ولو بقوة السلاح ، وهو تشوه اخر ووجه من اوجه الفساد التي قد تنسف البنية الاقتصادية للبلاد بحذافيرها .
ولان الاقتراض من المصرف المركزي ، في حال العجز في الايرادات ، يرتب دين عام ، دين يبدو انه غير قابل للسداد ، ويشكل تشوها في المركز المالي للصرف المركزي ، وهو الامر الذي حال دون اعتماد الحسابات الختامية للمصرف منذ عام 2014 .
ولان الالتزامات القائمة على الخزانة العامة ( مرتبات متأخرة ، ومرتبات مؤجلة ، علاوة الاسرة التي لم تدفع بالكامل ، ديون صندوق الضمان ، مستحقات شركات اجنبية ، مستحقات الجهات التي تقدم خدمات الحكومة ، والدين العام ) كافية لاستفاد كامل ايرادات النفط التي يمكن ان تتحقق لمدة قد تتجاوز خمس سنوات مقبلة من التصدير المستمر ، على الاقل .
ولان نظام المرتبات الجديد في القطاع العام ، الممول بايرادات النفط ، قد بلغ مستويات لا يستطيع القطاع الخاص الهش مجاراته ، ومن تم سيستمر التوظيف في القطاع العام في التزايد ، مخالفاً كل المعايير التي تحكم الاستخدام في القطاع الحكومي ، وما يصاحبه من تدنٍ في الانتاجية ، وتكريس لحالة الدولة الريعية .
ولان الفرصة التي تضيع على الاقتصاد ، لتحقيق مكاسب تنموية او الحصول على موطأ قدم على خارطة العالم الاقتصادية ، لايمكن تعويضها الا بتكاليف مضاعفة ، في عالم تسوده المنافسة والسعي وراء تحقيق المصالح وانتهاز الفرص .
ولانه لم يتم بعد تطوير وتطبيق استراتيجية وطنية للحماية الاجتماعية ، في ظل اوضاع تنامت فيها معدلات الفقر ، وتضاءلت فيها الطبقة الوسطى ، واتسعت فيها الفئات الهشة ، بسبب الحروب والنزاعات المسلحة وما افضت اليه من نزوح وتهجير الأفراد والعائلات.

ولانه لايبدو أن هناك ربط أو تنسيق بين سياسات تطوير قطاع النفط والغاز وسياسات وبرامج تحقيق التنمية الاقتصادية وتراكم رأس المال الداعم للنمو الاقتصادي ، هذا الانفصام بين واقع ومستقبل قطاع النفط ومستقبل التنمية الاقتصادية يحول دون تحقيق هدف تنويع الاقتصاد ، أو التقليل من الاعتماد على النفط كمورد وحيد للدخل ، و يهدد مستقبل الاقتصاد الليبي .

ويمكن تصور خارطة طريق لانقاد الاقتصاد الوطني والعبور به الى بر الامان في ظل الازمة الحالية التي يعيشها ، وذلك على النحو التالي:

اولاً : البدء فورا في حوار مجتمعي ، ينتهي الى وضع رؤية لمستقبل الاقتصاد الليبي وكيفية الخروج من ازمته الحالية ، تحضى بتوافق مجتمعي ، ويكون لها اطار زمني واضح ، تكون ملزمة لكل الحكومات القائمة والتي تاتي في المستقبل اثناء فترة تنفيد اهداف الرؤية. تشارك فيه مؤسسات الدولة المعنية ( مجلس التخطيط الوطني ، المجلس الوطني للتطوير الاقتصادي ، وزارة التخطيط ، وزارة الاقتصاد ، المصرف المركزي ، والمؤسسة الوطنية للنفط ) ومراكز الابحات المعنية بالجامعات الليبية ، ومراكز الابحاث الاستراتيجية المرخص لها، ومنظمات المجتمع المدني المعنية ، والخبراء الليبيين في مجالات التخطيط الاستراتيجي ، والاقتصاد ، والمالية العامة ، والقانون .

ثانياً : الاعلان عن وثيقة الرؤية التي يتم التوافق عليها ، واقرارها ، دون تعديل او تحريف ، واصدارها في شكل قانون ،من السلطة التشريعية .

رابعاً : تشكيل حكومة مصغرة تسند اليها مهمة التنفيد ، وتحدد فيها ادوار مختلف القطاعات والجهات ذات العلاقة .

خامساً : عدم الاعتماد الكامل على ما يرد في تقارير ودراسات بعض المنظمات الدولية ، فيما يتعلق بالسياسات التي تقترحها لادارة الاقتصاد الليبي والاموال الليبية ، او اخدها كمسلمات ، ويكتفى بالاستئناس بها .

سادسا : تشكيل لجنة تنبثق من الحوار الوطني المجتمعي ، المشار اليه في اولا ، تتولى متابعة تنفيد الرؤية الموضوعة لمستقبل الاقتصاد الليبي ، ومعالجة الازمة التي يعانيها حاليا ، وتعطى صلاحية التوجيه والتنبيه ، بموجب القانون الذي يصدر بتبني الرؤية ، ومخاطبة الجهات الرقابية والقضائية اذا لزم الامر ، لضمان الالتزام باهداف واستراتيجيات وبرامج الروية الموضوعة .

سابعا ً : مراجعة القوانين والتشريعات السارية ، وعلى النحو الذي يضمن تحقيق اهداف الروية الموضوعة ، وعدم اصطدامها بالتشريعات القائمة .

ثامناً : مراجعة السياسات الاقتصادية ( المالية والنقدية والتجارية ) المطبقة حاليا ، وتصويب الاجراءات التي تتبعها المؤسسات المعنية والتي قد تكون ساهمت في تعميق الازمة التي يعاني منها الاقتصاد الليبي حاليا ، ويمكن ان يكون ذلك من خلال تنظيم مؤتمر حول الاقتصاد الليبي يعد له جيدا وتشارك فيه مؤسسات الدولة المعنية و الجامعات الليبية ومراكز الابحاث والخبراء والمختصين .