الشحاتي يكتب: التشخيص والعلاج للأمراض الاقتصادية

202

كتب: محمد الشحاتي الخبير بمجال النفطي مقالا

من ناحية المفاهيم لا أعتقد أن هناك فرقا كبيرا بين مواجهة وعلاج الامراض سواء كانت بدنية أم اقتصادية.

فالنجاح في معالجة هذه الامراض يتمحور أساسا في كفاءة التشخيص والعثور على السبب الجوهري لا الظاهري للمرض.

أكيد أن الكثير منا صادف في حياته مشكلة تتعلق به أو بشخص عزيز عليه تتمثل في سوء تشخيص المرض لتقود بالتالي أما عدم فعالية العلاج في أحسن السيناريوهات أو تفاقم المرض في أسواءها.

سوء التشخيص يرجع لعوامل عديدة أهمها نقص الخبرة، الإهمال، عدم وجود آليات الكشف المناسبة، العاطفة وغيرها.  أحيانا يصدر سوء التشخيص عن أساتذة متخصصين تجرفهم العاطفة أو الحكم المسبق عن حالات معينة. 

عشت فترة أثناء الدراسة في بريطانيا وتردد علينا الكثير من الأقارب والاصحاب للعلاج هناك وكنت ارافقهم للمستشفيات والمتخصصين.

  هناك حكايات كثر مرت عليه فهناك من كان قادما من ليبيا مباشرة بتشخيص دقيق للحالة وأيضا كيفية العلاج وكان قدومه إلى بريطانيا زائدا عن الحاجة، بينما هناك من قدم بتشخيص خاطئ تماما واحتاج الامر إلى إعادة وصف العلاج وعلاج أخطاء التشخيص أيضا، والمشكلة أن بعض من هذه الحالات عولجت في دول أخرى مثل ألمانيا، تونس أو الأردن.

لا أقول بالطبع أن بريطانيا هي قمة التشخيص والعلاج فقراءة تقرير صحفي في أحد الجرائد اليومية هناك تجعلك تغير رأيك سريعا عن سوء الخدمات الصحية وكوارث بعض الأطباء في الجزيرة الإنجليزية.

ربما بالفعل هناك نوعين من الخدمات الصحية أولها تلك التي تقدم في شارع هارلي ستريت أو مستشفى كرمول الباهظة الثمن وتلك التي تقدم في خدمة الصحة الوطنية NHS في المستشفيات العامة الإنجليزية.

الانجليز أيضا لهم إنجازات كبيرة في تشخيص الامراض الاقتصادية وعلاجها، آدم سميث وجون كينز.  المدارس الاقتصادية الاوربية أو الامريكية حقيقة لم تركز على التعمق في تشخيص المرض الاقتصادي، بل في معظم الأحيان ركزت على إجرائية الاقتصاد الجاري بما فيهم كارل ماركس، جوزيف ستجليزت.  المدرسة الهندية في الاقتصاد تأثرت إلى حد كبير باتجاهات التفكير الإنجليزي في التعامل مع العملية الاقتصادية كشخص مريض ويحتاج إلى العلاج لذا نجد الكثير من الكتاب الاقتصاديين الهنود يتبعوا في خطوات اقرانهم الانجليز.  

إذا ما حاولنا أن نشبه هذا بالطب فأن هناك من الأطباء من يتعامل مع ظواهر المرض مثلا ارتفاع الحرارة، الكحة، الألم ويحاول تخفيفها على المريض، وهناك الآخرون الذين قد يتغاضوا عن الظواهر ليتعمقوا في محاربة المسبب الأصلي سواء كان خارجيا فيروس أو بكتيريا أو أسباب داخلية أخرى.  
المواجهة الأخيرة مع فيروس كورونا قد توضح نوعا ما هذا الفرق في التفكير، فبينما اتجهت أوربا إلى معالجة الاعراض الظاهرية للمرض في محاولات فرنسا في إيجاد علاج للأعراض الظاهرية، ركزت بريطانيا منذ البداية على مواجهة السبب الرئيسي للمرض والتوصل إلى لقاح يساهم في القضاء على الجائحة.

وعلى الجانب الاقتصادي فأن كارل ماركس أنشغل بمعالجة ظواهر القهر الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي في حين فضل آدم سميث معالجة قضية الثروات وانتقالها.  وبينما كان تركيز الفكر الاقتصادي الكلاسيكي في أمريكا في الثلاثينات على معالجة فتح الاقتصاد والمنافسة، ركز كينز على حل مشكلة النقد في الاقتصاد.

أخي القارئ الآن ربما تتساءل لماذا استرسل في هذا الحديث؟
أود القول ببساطة أننا في ليبيا اليوم نتبع الأسلوب العلاجي الأول وهو معالجة الظواهر بناء على سوء تشخيص الحالة الاقتصادية الليبية.  فالسلطات يبدو أنها تركز على علاج السيولة، التضخم، غياب الكهرباء، تأخر المرتبات وغيرها من الازمات المرضية بسلسلة من الإجراءات المتخبطة التي ستزيد من المشكلة ببساطة لأنها لا تركز على حل الأسباب الحقيقية. 
في بداية جائحة كورونا تعلقت أنظارنا جميعا بالمحاولات الفرنسية في إيجاد علاج للمرض كحل سريع للضائقة وضحكنا واستأنا من تصريحات رئيس وزراء بريطانيا في العمل على تحقيق مناعة القطيع التي كنا نرى فيها الطريق الأطول والاصعب.

  اليوم بعد تجربة أكثر من سنة أتضح أن الطريق الإنجليزي أكثر براغماتية وأن العمل على تدمير الفيروس وليس ظواهره والوصول إلى مناعة القطيع هو الأكثر واقعية.

التشخيص للحالة الاقتصادية في ليبيا هو عدم وجود تنمية اقتصادية لمدة تزيد عن عشر سنوات اليوم. 

بدون وجود برنامج تنموي شامل محصن سياسيا وأمنيا وعدليا فأن الازمة الاقتصادية مستمرة وكل محاولات العلاج الوقتية لا قيمة لها على أرض الواقع.

لا أرى أن وضع نموذج نظري لمثل هذا البرنامج من المستحيلات السبع، وهو غير مقيد بزمن معين أو حكومة معينة.  نحتاج الخبراء والرؤية والعزيمة لوضعه وإلزام من يأتي في سدة القرار بتنفيذه.