الشحاتي يكتب : النفط وكوفيد 19

162

كتب: محمد الشحاتي الخبير بمجال النفطي مقالا

بمجرد انتشار جائحة كوفيد 19 تسابقت العديد من أجهزة الاعلام لتصوير الحادثة بأنها بداية النهاية لجميع أنواع الوقود الاحفوري وفي مقدمتها النفط والغاز وبداية حقبة الطاقات الجديدة والمتجددة بما فيها طاقة الرياح والطاقة الشمسية والسيارة الكهربائية.

في الحقيقة هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، ولكن على مر العقود الأربعة الماضية وتحديدا منذ نهاية الثمانينات تكررت هذه الحملات الإعلامية المدفوعة في جانب كبير منها بدوافع سياسية أكثر منها اقتصادية أو تكنولوجية تهدف أساسا إلى تقليل قيمة النفط عبر خفض سعر بيعه في الأسواق العالمية.


وبينما تتناسى هذه الحملات الإعلامية القضايا الجوهرية التي يعاني منها التوجه إلى الطاقات البديلة والتي تجعلها غير منافسة للوقود الهيدروكربوني السائل والغازي مثل التكلفة، القدرة الحرارية المحدودة، تشويه الطبيعة، الاستغلال المكاني، تهديد الحياة البرية، صعوبة النقل، وغيرها، يتم التركيز بشدة على موضوع التسخين العالمي وتغيير الجو كسلبيات قاتلة لاستخدام الوقود الهيدروكربوني.


وصل سعر النفط الآجل في أبريل 2020 في بورصة نيويورك إلى (-37) دولار للبرميل وأنخفض سعر خام برنت إلى 15 دولار للبرميل.

وبالرغم من كل الدلائل التي تشير إلى أن النفط سيعود الطلب عليه كالسابق ألا أن تركيز الحملات الإعلامية ضده من قبل مؤسسات عالمية كبرى مثل “إيكونيميست” لتضغط على الأسواق بأن النفط لن يعود كما كان وسيتم زيادة وتيرة طرده من سوق الطاقة بعد انتهاء الجائحة لم ينجح فقط في خفض القيمة الحالية للنفط، بل خفض أيضا القيمة المتوقعة له في المدى المتوسط والمدى الطويل.


الجدل طويل ومعقد في هذا المجال، ولكني كما أشرت فأن هذا حادث متكرر حيث انخفض سعر النفط في بداية الثمانينات إلى 10 دولار للبرميل بعد أن وقعت الأسواق تحت دعاية أن النفط سينتهي نتيجة التحول إلى مصادر أخرى مثل الطاقة النووية والفحم والنفوط المنتجة خارج منظمة أوبك، لم تتعاف أسعار النفط في نهاية الثمانينات حتى رجعت الدورة من جديد مدفوعة هذه المرة بالتحول إلى الغاز الطبيعي والسيارات الهجينة والتي لم تنته ألا بعد دخول الصين كمستورد للنفط في بداية الألفيات.


خلال العقد الماضي 2010-2020 كان الضغط آتيا مما سمي النفط الصخري وهو مصدر نفطي بديل تم الدفع به بالرغم من عدم قدرته على المنافسة الاقتصادية مع النفط التقليدي ووضع ضغوطا مالية ومصرفية كبيرة للاستمرار في انتاجه حتى مع المعرفة الاكيدة بأنه ليس تنافسيا وفقا لقوى السوق الحرة.

العقد القادم يبدو أنه غير مناسب الإصرار فيه على الاستمرار في التوسع في هذه الصناعة الفاشلة ليس من ناحية اقتصادية فقط، بل حتى من ناحية بيئية. ومن هنا يتوق أن تسحب الحكومة الامريكية ضماناتها لهذه الصناعة مما قد يسبب في تراجع كبير لها أو ربما انهيارها بالكامل.


هذا قد يؤدي إلى ارتفاع في أسعار النفط التقليدي خصوصا بعد عقد كامل من ضعف الاستثمار فيه بشكل خطير.

هذا يبرر نوعا ما في رأيي كثافة الحملة الإعلامية التي توجه إلى استعمال النفط كوقود ومحاولة جر الانتباه إلى تقدمات هامشية على مستوى الطاقات المتجددة لن تكون فعالة في تنحية النفط ألا بتدخل حكومي قوي لتعديل هيكل تزويد الطاقة عبر المجتمعات الإنسانية.


لا بد أن نعرف أن التوجه إلى الطاقات المتجددة على حساب النفط والغاز وتشريع إيقاف استعمالهما بالقوة عبر معاهدات عالمية سوف يؤثر وبشدة على الاقتصادات النامية التي من الصعب عليها التكيف للتكنولوجيا الجديدة مما سيهدد بقفزة رأسمالية أخرى في صالح الدول الصناعية كتكرار للثورة الصناعية الأولى أو ثورة طاقة البخار التي حدثت في القرن التاسع عشر.


وبالرغم من كل هذا الجدال فأن النفط اليوم هو من يقوم بتوزيع اللقاحات المضادة لكوفيد-19 عبر الجو، ويوزع الغذاء عبر البحار، وينقل الملايين يوميا بما فيهم من يتلقون العلاج من الكوفيد ويوفر الغاز التدفئة للملايين في هذا الشتاء القاسي، وسيستمر النفط في ذلك في المدى المنظور، ولكن في نفس الوقت يجب على العالم المستهلك والدول الصناعية أن يتوقف عن تكرار لعبة سئمنا منها.