بريون يكتب لصدى مقالاً بعنوان “كيف يكون المرتب التوازني ملائماً للمعيشة ؟”

394

كتب المستشار الاقتصادي الأسبق لمصرف ليبيا المركزي “نوري بريون” لصحيفة صدى الاقتصادية مقالاً بعنوان : كيف يكون المرتب التوازني ملائماً للمعيشة ( 1 )؟

إنها من أصعب المهمات التي تُعرض على الاقتصادي الماهر وتصعب عليه كثيرا ، لأنها مهمة تتطلب تحقيق رغبات آلإنسان المتعددة والمتزايدة مع مرور الزمن، بينما يتم وضع وحساب مشروع ميزانية الأسرة في زمن واحد لنتمكن من حساب المرتب الملائم للإنفاق على هذه الأسرة، لكن ما هو حجم المرتب المزمع تحديده، والجواب يتطلب معرفة المصادر التي تقدر حتما على تمويله في المدة القصيرة والطويلة، ومعرفة مدى استقرارها لذلك تختلف كل دول العالم في قدرتها على تمويل الحجم الملائم للمرتب وفق نشاطها في الإنتاج والتنمية. تلك البلدان المتقدمة في الإنتاج والتنمية لا خوف عليها من التمتع بالرفاهية لأن الرفاهية من ضمن إنتاجها.

أما الخوف كل الخوف فيكون على الاقتصاد الاستهلاكي، الذي يعتمد على تصدير العمل كمواد خام للخارج، أو الاعتماد على الاقتصاد الريعي مثل ليبيا في إنتاجها على النفط، وعجزها في اقتحام الإنتاج والتنمية ، فوجب عليها أن تنشئ شركات مساهمة كبيرة لغرض تصنيع ما يمكن إحلاله من الواردات، وإنشاء شركات مساهمة كبيرة للاستيراد، وخاصة للبيع بالجملة لكي تنخفض التكاليف من جهة، ويدخل المستثمر الليبي ( كأفراد ) في هذه الشركات من جهة أخرى.

ومن جهة ثالثة وجب على الشعب الليبي أن يبذل مجهوداً منتظماً في العمل الوظيفي، ويتقن العمل الذي يُسند إليه، لما لهما من علاقة قوية في تحديد حجم المرتب العالي ، مع ترك الخصال التي تعلمها أخيرا مثل الكسل وعدم الاهتمام والأنانية، واكتساب خصال جديدة ليكون رشيداً في سلوكه ومحباً للخير لأهله والتعاون معهم، عملا بأن خير الناس أنفعهم للناس، وإن حصل هذا سيكون من نتائج سلوكه ، لا ضرر ولا ضرار، وأن يسلم الناس من لسانه ويده. هذه هي التربية الاقتصادية التي يجب أن نتعلمها من رسولنا صلى الله عليه وسلم لأنه أرسل رحمة للعالمين.

لكن للأسف أصبح الشعب الليبي يعيش على مصدر واحد للدخل هو النفط الذي تتحكم في أسعاره الدول المتقدمة ، وهي الأقوى حتى على دول الأوبك ، بسبب ضعف أعضائها من دول الخليج. ومما زاد هذه البلدان قوة هو أنها هي الأخرى تتحكم في أسعار وسائل الإنتاج ، وأسعار الواردات من السلع والخدمات ، لأنها سبقتنا إلى ذلك ، وحافظت عليه ، لكننا لم نتعلم بعد !!.

إذ تقلبت أسعار النفط الخام تقلبات كبيرة لم تصلها سلعة أخرى من قبل إلى أقل من دولارين للبرميل الواحد قبل ثورة سبتمبر 1969 وإلى نحو 3.24 دولار في عام 1973 ونحو 36.6 دولار في عام 1980 ونحو13.1 دولار في عام 1998 ، وذلك وفق متوسط إحصائية صندوق النقد الدولي( ص ن د -المجلة المالية العالمية السنوية –سنة 1980 ). وهذا لا يختلف كثيرا عن متوسط بريون الذي تم حسابه على أساس جدول متوسط أسعار بيع النفط الخام بالدولار ( فوب ) المنشور في النشرة الاقتصادية لمصرف ليبيا المركزي ، حيث بلغ 3.17 في عام 1973 ونحو 35.89 دولار في عام 1980 و23 دولار في عام 1990 و28.05 دولار في عام 2000 ، ثم قفزت الأسعار ثلاث قفزات أكبر وصلت قمتها إلى نحو 110.46 دولار في عام 2012 ، يليه انحدار شديد هبط إلى نحو 45.46 دولار في عام 2016 ، ثم ارتفاع بسيط إلى 55.05 دولار للبرميل في عام 2017 ، ثم تراوح بين 59 و62 دولار في عام 2019 .

لا شك أن هذا التذبذب الكبير في أسعار النفط الذي تتحكم فيه الدول الكبرى وجب أن نعتبر صادرات النفط هي العنصر الأول في الحسبان عند وضع خطة حجم المرتب المتوازن ، كما أنه يجب الاعتراف بأن المسئولين في الدول النامية لم ينتبهوا إلى وضع الاحتياطيات اللازمة لمعالجة مثل هذه المعضلة ، وهي عدم استقرار تدفق الدخل في اقتصاد ريعي بسبب الانخفاض الموجع في أسعار السلع الريعية ، مما يؤدي إلى الركود الاقتصادي المتسارع ، رغم أن كل دولة بها وزارة للتخطيط والتنمية ، لكنها لا تشقى بهذه الأمور.

أليس من الأفضل للمسئولين أن يضعوا العلاج السريع ، مثل الحل الأمثل الذي استلهمه سيدنا يوسف عليه السلام ، إذ قال سبحانه وتعالى ( وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكُلُهن سبعُ عجاف وسبعَ سنبلات خُضر وأُخر يابسات ….43) يوسف، قال سيدنا يوسف عليه السلام إن هناك فائضا عن حاجة الشعب ، في السبع سنوات الأولى المصحوبة بالرخاء ، فاتركوه في سنبله لكي لا يسوس ، ثم ستأتي سبع سنوات أخر يابسة ومجذبات ، تأكلون فيها مما ادخرتم أيام الرخاء ، للأسف حتى هذا الخيار ليس في أيدينا بالكامل، لأن الفائض في حالة ليبيا رصيد من النقد الأجنبي من جهة ، وأن الدول المتقدمة هي التي تتحكم في أسعار الطاقة وفي أسعار وسائل الإنتاج مثل الآلات والمعدات والمواد الخام الصناعية من جهة أخرى .

وبالتالي لو حصلت زيادة في إيرادات النفط سيكون من الأفضل أن يتم استثمارها في التنمية ، وليس في زيادة السلع الاستهلاكية الكمالية، أو زيادة الرصيد النقدي حتى لو كان من الذهب والفضة ، أما في حالة انخفاض أسعار النفط فوجب البحث عن تمويل الثنمية، إما من الادخار الإجباري، وإما من التمويل الخارجي، أو منهما معا، والأولوية للادخار الإجباري، ولو كانت مصحوبة بمشكلة النقد الأجنبي .

وهنا تجدر الإشارة إلى وجوب المبادرة بإنشاء احتياطي دعم المرتب (هي 5%) من صافي الريع النفطي، وهي بمثابة زكاة صناعة النفط ، يتابعها ويشرف عليها ديوان المحاسبة كاحتياطي للإنفاق على التنمية البشرية وعلاوة المواطنة، ويمكن تحديد علاوة المواطنة بمبلغ 100 دينارإذا كان سعر النفط 56 دولارًا فأكثر للبرميل الواحد ، أو 50 دينارا إذا كان سعرالنفط الخام 55 دولارا فأقل للبرميل الواحد. أو إلغاءها على الإطلاق إذا أصبحت على حساب التنمية المرغوبة، وذلك ليشعر المواطن الليبي أنه لا يعتمد على إنتاجه المباشر، أضف إلى ذلك إنها سياسة تحوطية عند تعرض الموازنة الحكومية للعجز، إذ إن الذي يؤثر في المرتب مباشرة هو التشوه الخطير كأثر سلبي في الاقتصاد الوطني، ولكن يمكن علاجه من خلال الإنسان الخير للناس، لأنه نشأ من أشرار الناس المفسدين الذين جعلهم الله قادرين أن يُغيروا ما بأنفسهم فيكونون من الصالحين.

لذلك إن جاء العيب من الإنسان، فيمكن محوه بإاستخدام علم السياسة النقدية والقانون من جهة واستخدام هداية الله وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في تهذيب النفوس وترشيد السلوك من جهة أخرى، ولكن وجب ألا نستهين بعواقب التضخم وخاصة إذا كان متصاعدا باستمرار مثل وجوده حاليا بنسبة متوسط 7% سنويا خلال الفترة ( 90-1999) ، ونحو متوسط سنوي بلغ انخفاضه ( -6%) خلال فترة قصيرة ( 2000-2003)، وكان ذلك بفضل محو آثار السوق السوداء بمعدل التخفيض ( 50.3% ) في 1 يناير 2002، والمعدل التكميلي 14.9% في 14 يونيو 2003 من جهة، واستمرار المصرف المركزي في توفير الكميات المطلوبة من النقد آلأجنبي من جهة أخرى ثم واصل ارتفا عه من جديد بواقع 5.5% سنويا خلال الفترة ( 2006-2014) وبأكثر من ثلاثة أضعاف ارتفع متوسط التضخم السنوي بنسبة 18.4% خلال الفترة ( 2015-2018) بسبب انخفاض إنتاج وصادرات النفط بعد قيام ثورة 17 فبرايرمن جهة ، واتساع شراهة بعض المفسدين الليبيين في أكل أموال الناس بالباطل من خلال كل الطرق غير المشروعة من جهة أخرى.

ومما زاد الطين بلة، بدل أن تتجه الجهات المسئولة نحو التنمية واستكمال مشروعات التنمية التي توقفت بسبب قيام الثورة لغرض زيادة دخول الليبيين وتخفيض معدل البطالة قي العمالة الليبية ، إنها لجأت إلى تشجيع الفاسدين الراغبين في تحويل الفائض من أموالهم إلى الخارج فخُصصت عشرة آلاف لكل من يرغب التحويل إلى الخارج بسعر أقل من سعر السوق السوداء ليكون مربحا لهم ، كما خُصص لأرباب الأسر مبلغ 500 دولار لكل فرد في الأسرة سنويا بسعر الصرف الرسمي لأي غرض يرغبه ، بما فيه البيع في السوق الموازية من ضمن خطة الإصلاح الاقتصادي ولكنه خراب جزئي للتنمية، رغم أنها ساهمت بشيء غير ملموس من التنمية، لأن ليبيا فقدت أكثر من 20 مليار دولار كنقد أجنبي ، يمكنها أن تضاف كوسائل إنتاج في ليبيا ، فتزداد العمالة ، ويزداد الإنتاج والدخل. بينما يتطلب الإصلاح الاقتصادي السرعة في الإنتاج مثل إتمام مشاريع الإسكان التي يتطلب إنجازها تمويلا لا يتجاوز 25% من قيمتها ، مثل المشروع الإسكاني بإنجيله جنوب جنزور، أو إضافة خطوط إنتاجية للمصانع المنتجة القائمة ، مثل مصنع الكسكسي والمصانع الأخرى المنتجة للسلع التي تُكون نسبة كبيرة من وارداتنا لكي نوفر قليلا من النقد الأجنبي. والنتيجة التي يجب الاعتراف بها هو أن النفط لا زالت سلعة نادرة ولا زالت الدول الكبرى تحب متابعة حتى إنتاجها ، مما تُشعرنا كأنهم شركاء معنا ، لذلك وجب على الليبيين أن يتحدوا وينهوا خلافاتهم إن أرادوا الوصول إلى شاطئ آلأمان.