بريون يكتب عن “عدم المساس بالأرباح المحتجزة لصندوق الإنماء الاقتصادي”

518

 كتب المستشار الاقتصادي الأسبق بمصرف ليبيا المركزي “نوري بريون” لصحيفة صدى الاقتصادية مقالاً بعنوان “عدم المساس بالأرباح المحتجزة  لصندوق الإنماء الاقتصادي”

منذ بضعة أيام وأنا أتصفح صحيفة صدى الاقتصادية وقع نظري على رسالة من وزير الاقتصاد بالحكومة المؤقتة إلى رئيس الحكومة المؤقتة يطلب فيها من المصارف التجارية عدم المساس بالأرباح المحتجزة لصندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي، مما جعلني أتذكر غيبوبة المصرف المركزي وديوان المحاسبة اللذين لم يدعوان إلى جمعية عمومية لمصرف تجاري لمناقشة ميزانية واحدة في القطاع المصرفي باستثناء مصرف التجارة والتنمية ومصرف الصحاري منذ ثماني سنوات ، أليست هذه بالمدة الطويلة!

ثم أليس هذا ظلماً أيضاً، بالنسبة للمستثمرين الصغار وخاصة المتقاعدين الذين كانوا يحلمون بدعم دخولهم، لكنها زادت انكماشا بسبب سوء إدارة الحكومات المختلفة ثم ضغطها المباشر  على المصرف المركزي في معالجة التضخم والبطالة، مما زاد إلى اشتعالهما بدلا من إطفائهما. علما بأن إزالة أي تشوه اقتصادي يستحيل حدوثه في حالة انقسام المصرف المركزي إلى مصرفين والحكومة المركزية إلى حكومتين كما هو الواقع في ليبيا.

 أما بالنسبة للأرباح المحتجزة لصندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي، فإنها لا تسمى أرباحا وقابلة للتوزيع إلا بعد اعتمادها من محافظ المصرف المركزي، لكي يتم التأكد من أنها أرباح حقيقية وفق قانون المصارف رقم 1 لسنة 2005 وخاصة المادة 76 ( لا يجوز لأي مصرف توزيع أرباح عن أسهمه إلا بعد خصم جميع المصروفات، بما في ذلك مصروفات التأسيس، والإدارة، وتغطية الخسائر، وأي مصروفات أخرى، لا تقابلها أصول حقيقية.)

علما بأنه لا تكفي موافقة الجمعية العمومية وحدها، رغم أن أحد كبار موظفي إدارة الرقابة على المصارف يحضر اجتماع الجمعية العمومية ممثلا للمصرف المركزي لغرض المتابعة، فإن المصرف المركزي ( بعد تأكده من سلامة الحسابات وفق قانون المصارف رقم 1 لسنة 2005 ) يعتمد قيمة آلأرباح القابلة للتوزيع، ويضفي عليها الشرعية.

 بدون شك لا يجوز للمصرف أن يمنح أي تسهيلات لصندوق الإنماء الاقتصادي في مقابل أرباح له لم تتحقق بعد، كما لا يجوز منح أي تسهيلات له، مقابل قبول الأسهم التي يتكون منها رأس مال المصرف بصفة ضمان لهذه التسهيلات. لا أعتقد أنه يوجد مسؤول مصرفي واحد يخالف قانون المصارف قبل ثورة قبراير، لأن المسئول الأكبر منه لا يرضى بحدوث مثل هذه المخالفة، لكن اليوم بعد أن أصبح المسئول الأول منغمسا في مخالفة القانون فلا تلومن الصبيان بالرقص، وخاصة أن معظم المصارف التجارية لم تقم بإنجاز جمعية عمومية واحدة في طرابلس، لمدة طويلة سوى مصرف الصحاري الذي أنجز أربع ميزانيات سنوية (2011-2014 )، منها سنتان سجلتا خسارة بلغت نحو 65.2 مليون دينار في عام 2011 ونحو 26.8 مليون دينار في عام 2012 ، وسنتان سجلتا ربحا يلغ 36.8 مليون دينار في عام 2013 ونحو 31.8 مليون دينار في عام 2014 لتكون الخسائر المرحلة في هذه السنوات نحو 41.9 مليون دينار في عام 2012 ونحو 89.8 مليون دينار في عام 2013 ونحو 53.0 مليون دينار في عام 2014 ونحو 21.2 مليون دينار في عام 2015  لا شك أن المساهم الوطني يشعر بالحسرة لهذه النتيجة التي جعلته يُقر هذا الفساد البين دون قدرته على تصويبه.

 إن السياسة غير المدروسة جيداً التي اتخذها المصرف المركزي تحت ظل ثورة سبتمبر بشأن مساهمة القطاع الخاص الجزئية من جهة، وبشأن المساهمة الاستراتيجية لمصرف أجنبي ( بنسبة 19% من رأس المال وتحت إدارته ) في مصرف ليبي من جهة أخرى، إذ كان من آلأفضل لو عرض المصرف المركزي جميع أسهم المصرف في السوق المالية لإتاحة الفرصة لجميع المواطنين للاستثمار في القطاع المصرفي، وبنسبة مقبولة مثل ما جاء في قانون المصارف لسنة 1993 (مادة 53 ) بما لا يزيد ما يملكه الشخص الطبيعي على 1% من مجموع عدد آلأسهم، وبما لا يزيد على 2% بالنسبة لأصوله وفروعه، بدلا من بيع نحو 15% فقط من رأسمال المصرف، وزيادة حجم المساهمة إلى 5% للشخص الطبيعي و10% للشركة ( عامة أو خاصة ) علما أن قانون المصارف لسنة 2005 لم يحدد حجم المساهمة في القانون وتركها لتصدر بقرار من مجلس الإدارة، وهذا اتجاه سليم إذا كانت الإدارة فعالة، لكن في وضعنا الليبي زادت من درجة الاحتكار، وغياب العدالة بعد أن تطور رأس المال لأكثر من 200 مليون دينار، ثم إلى ألف مليون دينار، لكن الحمد لله أن الشعب الليبي معظمه فقراء لا يعرفون حتى معنى الاحتكار في البنوك، بينما القلة تمتلك الملايين وتحتكر التجارة حتى أنها تمنع من إنتاج السلع البديلة للواردات، وتقلل من السلع التصديرية.

 قبل ثلاث سنوات حضرت جمعية عمومية لمصرف صغير يقل رأسماله عن 35 مليون دينار، فلاحظت أن رجلاً جلس على كرسي رئيس الجمعية العمومية، فسأله أحد الحاضرين ألا يوجد انتخاب للرئيس! فأجابه أنا وأقاربي أملك أكثر من 51% فسكت السائل ب آهة مسموعة، لكنني أحسست من الحاضرين ببعض الآهات الساخنة، وقلت لنفسي من يتحمل وزر هذه الآهات ربما محافظ البنك المركزي أيضا إذ قال تعالى ( ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) سورة الزلزلة.

ومن جهة أخرى يتأكد الاعتقاد بأن سبب الخسارة الكبيرة التي تكبدها ( 91.933 مليون دينار) مصرف الصحاري خلال عامي 2011 و2012 هو الشريك ((BNP PARIBAS GROUP  الاستراتيجي الفرنسي، لأنها وقعت تحت إدارته، ولأن المصرف تحت الإدارة الليبية منذ إنشائه عام 1964 لم يتكبد خسائر على الإطلاق، بل حقق أرباحا بعد خصم الضرائب بلغ متوسطها السنوي نحو 13.144 مليون دينار خلال الفترة (1990-2006 )، ونحو متوسط 53.5 مليون دينار خلال عامي 2007 و2008، ثم انخفض مستوى الربح بنسبة 63.7% في عام 2009 وبنسبة انخفاض 59.1% في عام 2010 عن عام 2008 ، ثم دخل المصرف في خسارة عميقة موجعة بلغت 65.120 مليون دينار في عام 2011، وفي خسارة أقل عمقا بلغت 26.813 مليون دينار في عام 2012 . علما أن الشريك الفرنسي باشر إدارة المصرف في منتصف عام 2008، مما يعني أن مسئوليته أصبحت مؤكدة ،حتى أنها تم التركيز عليها في تقرير هيئة الرقابة بأن الجمعية العمومية قد اتخذت قرارها سنة 2012 بشأن الخسارة الناتجة عن موضوع شركة(CKG )، إذ قررت الجمعية تحميل مسئولية هذه الخسارة للشريك الاستراتيجي، لأنه يحتل منصب المدير العام وله أغلبية في مجلس الإدارة. والنتيجة إن المساهمين قد فقدوا جزء كبيراً من رأسمالهم بسبب تلك الخسارة الكبيرة ، حيث بلغت الخسارة المحولة إلى نحو41.922 مليون دينارفي عام 2012 ونحو 89.817 مليون دينار في عام 2013 ، ونحو53.0مليون دينار في عام 2014، ونحو 21.2 مليون دينار في عام 2015، أي بانخفاض ملموس في رصيد حقوق المساهمين، بلغ نحو 9.42% خلال السنوات الأربعة ( 2011-2014 )، وبمتوسط سنوي نحو 2.4%. أضف إلى ذلك أن نسبة توزيع الربح قد تأثرت بالانخفاض هي الأخرى من 15% على أرباح عام 2008، إلى نحو  6% على أرباح عام 2009، الأمر الذي جعل قيمة سهم مصرف الصحاري تهبط في سوق الأوراق المالية إلى 7.455 دينار في يوم 23\9\2013 (وفق مستند شراء 215 سهما للمستثمر رقم 1937)، أي بانخفاض بلغ 25.45% من قيمة السهم الاسمية، وهي خسارة موجعة للمستثمر البائع، بل توسعت الخسارة الرأسمالية ليهبط سعر السهم إلى نحو 6.5 دينار في أواخر عام 2014. ويمكن تأكيد هذه المعلومة من إحصائية التداول في السوق المالية التي أظهرت أن متوسط قيمة الأسهم المتداولة في عام 2013 والبالغة 10.103 دينار، قد انخفضت إلى نحو 8.548 دينار، أي بنسبة انخفاض بلغت 15.4%.

 خلاصة القول إن هذه النتائج ما كان لها أن تحصل لو لم يتخذ المصرف المركزي ما يلي:

أولا – سياسة تمليك المصارف للمواطنين: لا شك أنها سياسة في صالح الاقتصاد، ولكنها تتطلب إجراءات تدعم نجاحها، ومنها حجم المساهمة للفرد وللأسرة أو الشركة الخاصة، كما جاءت في قانون المصارف لسنة 1993. ورغبة معظم الخبراء هو طرح الأسهم للبيع باستمرار  بدون انقطاع حسب الطلب، ولكن الغلبة دائما للمسئولين في البلاد النامية، ومع ذلك يعتبر هذا التشوه مؤقتا.

ما دام حجم المستثمر وفق ( قانون المصارف لسنة 1993 مادة 53 ) أي بما لا يزيد عن 1% من مجموع عدد الأسهم للشخص الطبيعي، كما لا يجوز أن يزيد ما يملكه مع أصوله وفروعه على 2% من مجموع عدد الأسهم. والقصد هنا قطاع خاص 100%. لكن بصدور قانون المصارف لسنة 2005، وأجاز المساهمة للأشخاص الطبيعية والاعتبارية الخاصة والعامة ( مادة 67) على أن تصدر بقرار من مجلس الإدارة، حيث صدر القرار بالمساهمة بنسبة 5% للشخص الطبيعي و10% للشخص الاعتباري من مجموع عدد الأسهم، إنه القرار الذي يؤدي إلى احتكار الإدارة وتشوهات أخرى تظهر مع تغير الظروف الاقتصادية، إذن إن صندوق الإنماء الاقتصادي مسئول عما حصل للمصرف بسبب عدم تأهله لامتلاك حصة كبيرة في مصرف ليس في مجال تخصصه.

ثانيا سياسة المصرف الاستراتيجي في المصارف الليبية:

 لا يوجد قطاع مصرفي ليبي قبل عام 1964 ولكنه يوجد  قسم للعمل المصرفي التجاري في رحم المصرف المركزي الليبي بدأ يترعرع منذ إنشائه في عام 1956. وفي عام 1963 صدر قانون المصارف رقم 4، ومنه أعلن المصرف المركزي سياسة تلييب المصارف التجارية طواعية، فجاءت المبادرة الأولى من الدكتور “علي نور الدين العنيزي” الذي أسس مصرف الصحاري كمصرف تجاري بمساهمة ليبية صافية بنسبة 51% ومساهمة بنك أف أمريكا بنسبة 24%، واندماج فرع سيشيليا بطرابلس بنسبة 25%، الأمر الذي أصبح الدكتور العنيزي مميزاً بأنه أول مؤسس للمصرف المركزي، وأول مؤسس للمصرف التجاري الوطني من المهد، وأول مؤسس لمصرف الصحاري لينطلق إلى التقدم عمقاً وتوسعاً، وخاصة بعد أن أصبح القطاع المصرفي الليبي يملكه الليبيون بالكامل منذ 22 ديسمبر 1972. ولكن في السنوات الأخيرة من ثورة سبتمبر حصلت بعض التشوهات للقطاع المصرفي بسبب انتشار الفساد من ذوي الفكر غير العميق، مما جعل الخبراء الأجانب وكان المسئول الليبي في طوعهم يروجون سياسة المشاركة الأجنبية في القطاع المصرفي هي العلاج لتلك التشوهات، ونجح هؤلاء في الضغط على المصرف المركزي لتصبح سياسة الشريك الاستراتيجي سياسة مشروعة، واعتمدت لأول مرة مع مصرف الصحاري والشريك الفرنسي ( باريبا ) وكذلك مع مصرف الوحدة و(البنك العربي بالأردن) وكلاهما سببا الضرر للمصرفين الليبيين، والأكثر عمقا في مصرف الصحاري.

وأخيرا أصبح من واجب إدارة البحوث والإحصاء أن تعد دراسة داخلية بشأن هذه السياسة وعرضها على المسئولين بالمصرف للعلم والاستفادة منها في المستقبل.