خبير اقتصادي يكتب: مثلث “Mundell” المستحيل في مواجهة المثلث الليبي الغريب

715

كتب الدكتور والخبير الاقتصادي “يوسف يخلف”

إن العاطل عن العمل هو الشخص الذي لديه القدرة والفراغ ولكن لا يعمل، هذا التوضيح لا ينطبق على الفرد فقط بل ينطبق أيضاً على اقتصاد الدولة، فليبيا اقتصاد عاطل عن العمل وكل ما يقوم به صانع القرار والسياسة الاقتصادية هو تجميل أدائه عبر استنزاف الموارد الطبيعية بالإنفاق الاستهلاكي مع سوء إدارة الموارد المالية، مما يجعل ما يقدم بشكل رسمي على إنه إنفاق استثماري يتحول عمليا إلى انفاق استثماري بغرض الاستهلاك، ولذلك لا يرى واقعيا أي قيمة مضافة له بالاقتصاد الليبي، ولا ينعكس في جودة خدمة أو رفاهية الفرد الليبي. ومع ذلك لم ينفك بعض من يوصفون بخبراء ومستشاري صناع القرار الاقتصادي بليبيا من تقديم النصح الغريب العجيب لصانع السياسة الاقتصادية الليبية والبعيد جدا عن واقع الاقتصاد الليبي، فبعضهم ينادي بحل المشاكل التي يتعرض لها الاقتصاد تكمن في تعويم سعر الصرف و عدم استقلالية السياسة النقدية، وآخرون يرون أنه لا مناص من عدم استقلالية السياسة النقدية وتقييد حركة رؤوس الأموال، ومصدر تلك الدعوات ليس عن دراسات علمية أو الاطلاع على تجارب مرت بها اقتصادات دول مثل التي يمر بها الاقتصاد الليبي حالياً، بل الإنصات إلى توصيات تمرر عبر “IMF” وبعثة الأمم المتحدة، فتارة تمرر علانية على شكل إصلاحات اقتصادية، وأحيانا أخرى توجيهات من تحت الطاولة في شكل إملاءات وصفقات مشبوهة لا علاقة لها بإصلاح الاقتصاد الوطني.

فبالرجوع إلى مطلع ستينيات القرن الماضي نجد أن الاقتصادي الكندي الشهير “R. Mundell” قدم قاعدة اقتصادية على قدر كبير من الأهمية وفي غاية الوضوح، وعرفت آنذاك “بالمثلث المستحيل”، أي استحالة انتهاجها أو إيجادها معاً في أي نظام أو خطة اقتصادية بأي دولة بالعالم وإن وحدت فالعواقب ستكون وخيمة على اقتصاد البلد والمواطن معاً، وتقوم أضلاع هذا المثلث على ثلاثة عناصر أساسية وهي استقلالية السياسة النقدية وثبات سعر الصرف وحرية حركة رؤوس الأموال.

وبالتالي واقعيا هل فعلا لا يمكن لاي اقتصاد انتهاج هذه العناصر معا؟ للاستطراد وفهم حقيقة هذا المثلث دعونا نتعرف على مفاهيهم هذه العناصر. أولاً- ثبات سعر الصرف: تعني ثبات قناة سعر الصرف هي ربط عملة البلد بعملة دولة ذات اقتصاد مسيطر مثل الدولار الامريكي وهو ما انتهجه الاقتصاد الليبي في سنة 1973، أو عبر ربطه بوحدة حقوق السحب الخاصة وهو ما انتهجه الاقتصاد الليبي في سنة 1986 وحتى الأن.

ثانيا- استقلالية السياسة النقدية: تعني لا يتدخل أي طرف خارجي في صنع السياسة النقدية المناسبة التي يتخذها المصرف المركزي، فمثلا عندما يتخذ قرار بخفض أو بتغيير أسعار الفائدة بغرض علاج الانكماش أو التضخم أو دعم الاقتصاد، يتخذها بناء على قرار مستقل دون توصيات أو توجيه من أي أطراف خارجية.

ثالثا- حرية تنقل الأموال: وهذا عدم وضع قيود على المستثمر المحلي والأجنبي في نقل أمواله أو الاستثمار داخل البلد أو إلى أي بلد أخرى يرغب الاستثمار فيه.السؤال الذي يطرح نفسه، كيف يكون هذا المثلث مستحيل؟ للأجابة على هذا السؤال دعونا نسوق المثال التالي: يفترض أنه توجد حرية تنقل الأموال بين الاقتصاد الليبي والتونسي، وكلا البلدين يتبعان أسلوب سعر صرف ثابت بين عملتيهما، وأن سعر الفائدة السائد في دولتي ليبيا وتونس هو 5%، ولكن نتيجة لتعرض الاقتصاد الليبي إلى مشكلة عدم استقرار الأسعار فنجم عنه تضخم أي انخفاض القوة الشرائية للدينار الليبي، فقرر المصرف المركزي رفع سعر الفائدة إلى 6% بهدف الحد من تداعيات التضخم على الاقتصاد الليبي، وهذا القرار سيدفع المستثمرين في تونس إلى زيادة الطلب على النقود ونقل الأموال إلى ليبيا بهدف الحصول على ربح أكثر، ونتيجة لزيادة الطلب على النقود بتونس، اضطرها إلى طرح المزيد من النقود من الاحتياطيات الموجود لديها، الأمر الذي تسبب في تداعي قيمة عملتها المحلية، والذي ينعكس في انخفاض القوة الشرائية للعملة التونسية وباستمرار هذا الوضع وعدم معالجته سيتسبب في انهيار اقتصادها أو تلجأ إلى القرض الخارجي ووضع الاقتصاد التونسي في عجز بميزان مدفوعاتها وظهور بند الفوائد والمديونية به.

مما سبق يلاحظ أنه لا مناص لاقتصاد أي دولة من اختبار ضلعين من أضلاع مثلث مندل المستحيل وهما:- ثبات سعر الصرف وحرية حركة رؤوس الأموال: وهذا ما فعلته دول الاتحاد الاوربي حيث تنازلت على استقلال السياسة النقدية وتبنت انتهاج قناة سعر صرف ثابتة وحرية تنقل الأموال.- ثبات سعر الصرف وسياسة نقدية مستقلة، وهذا ما تبنته دولة الصين، فقيدت حركة الأموال، وانتهجت أسلوب ثبات سعر الصرف واستقلالية السياسة النقدية، سياسة نقدية مستقلة و حركة رؤوس الأموال غير مقيدة: وهذا ما تبناه الاقتصاد الامريكي، فأمريكا بالذات تستطيع تبني أسلوب سعر صرف ثابت لأنها لها امتياز مبهر، فتطبع ورق بخس الثمن ليصبح عملة لها قوة إبراء وتشكل احتياطيات 60% من دول العالم.

بعد فهمنا لمكونات المثلث المستحيل، نعرض مثالا واقعيا لمخالفة المثلث المستحيل، في تسعينات القرن الماضي، لم تعير تايلاند وغيرها من اقتصادات دول شرق آسيا أي أهمية أو اعتبار للعناصر لمكونة للمثلث المستحيل، فانتهجت أسلوب حرية التنقل للأموال ووربط سعر صرف عملتها المحلية بالدولار الامريكي، كما تبنت انتهاج سياسة نقدية مستقلة.

هذا المناخ شجع رجال الأعمال على ضخ أموالهم بكميات كبيرة للاستثمار في دول شرق أسيا وعلى رأسهم تايلاند، وخاصة أن سعر الفائدة التي يتحصل عليها المستثمر في المدى القصير والمتوسط أعلى من المعروض في الولايات المتحدة الامريكية، وبما أنه بإمكان المستثمر نقل أمواله من وإلى الدولة دون قيود أو تعقيدات، ومع ضمان عدم خوف رجال الأعمال من تذبذب قيمة العملة المحلية لأن سعر صرفها ثابت ومربوط بالدولار الأمريكي، وبالطبع في ظل استقلالية السياسة النقدية للبلد ولا يوجد أي ضغوط أو منغصات خارجية عليها. وبالفعل كانت النتائج في بداية الأمر مبهرة للمستثمر وللدولة وحقق كل منهما أرباحا ودخول مرتفعة، وعند إحدى الدورات الاقتصادية وحدوث تحول بالميزان التجاري بتايلاند ودول شرق أسيا سنة 98-1999، هرع المستثمرون إلى نقل أموالهم وتصفية أعمالهم، الأمر الذي جعل من احتياطيات العملات الصعبة بتايلاند تتآكل وبشكل غير متوقع حتى النفاذ، وبالتالي فرض عليها تعويم العملة المحلية (جعلها بخس كل ما تملكه)، مما تسبب في انهيارمدوي في العملة المحلية، وظهرت ديون كبيرة جدا على الاقتصاد التايلاندي مما تسبب في إفلاس الكثير من المؤسسات وبالتالي تصفيتها وخروجها من السوق.

أما المستشارين والخبراء لدى صانع السياسة الاقتصادية بليبيا يريدون السير عكس علم الاقتصاد والتجارب الواقعية، بوضع المثلث الليبي الغريب: – تعويم سعر الصرف، يلاحظ أن سعر الصرف شبه معوم ضمنيا، حيث يمنح حصة للفرد (من 400$ الى 500$ سنوياً) ويمنح جزء من التجار الدولار بـ 1.42 د.ل، مع بيع حصة سنوية للأفراد (10 آلاف دولار) بقيمة 3.9 د.ل للدولار الواحد، لتخفض لاحقاً إلى نحو 3.7 د.ل، ويمنح الدولار لبعض الشركات الأجنبية العاملة في ليبيا بقيمة أقل من سعر الصرف الرسمي لسنة 1995م أي 0.28 درهم للدولار الواحد، (ديوان المحاسبة، 2015)، هذا بالإضافة إلى سيطرة السوق السوداء (سوق الجريمة) على الأسعار بالدولة في ذهول المؤسسات الرقابية والتفيذية والمصرف المركزي وعدم قيامهم بوظائفهم، وهذه السياسات تضعف الثقة في العملة الليبية وتسبب عزوف المستثمر الأجنبي عن الاستثمار في ليبيا، هذا فضلاً عن هجرة المستثمر المحلي لدول أكثر استقرار وثقة في عملاتها المحلية.

وبالتالي (في حال عدم وجود صناعة ولا إنتاج ولا شيء تصدره غير المورد الطبيعي فإن التعويم يعني تخفيض قيمة العملة وتآكل احتياطيات البلد من العملات الصعبة، والتي بها تنخفض قيمة كل شئ قيم فيها، وهذا ما يجعل الموارد الأصلية متاحة للبلدان المفترسة بسعر بخس من قيمتها الاصلية.- عدم استقلالية السياسة النقدية وتبعيتها لصندوق النقد الدولي وبعثة الأمم المتحدة.- وتقييد انتقائي على حركة رؤوس الأموال.

الخلاصة: بما أن ليبيا ذات اقصاد يوصف على أنه متين بفضل ما حباها الله من ثروات طبيعية لا دخل لمسئول بها كما أسلف آنفاً، هذا بالإضافة لعجز صانع القرار الاقتصادي عن إدارة هذه الموارد وتحقيق قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الليبي، عليه في مثل هذه الظروف الراهنة يوصى بالتالي:

1) العمل على رفع قيمة الدينار الليبي، وانتهاج أسلوب سعر صرف ثابت (وليس كالوضع الحالي وجود أكثر من 3 أسعار صرف ويوصف بأنه سعر صرف ثابت)، والهدف من ذلك الحفاظ على رفع رفاهية الفرد والحفاظ على قيمة موجدات البلد وعدم جعلها رخيص للأجنبي والعكس لابن البلد، وذلك بسبب تركيز الاقتصاد الليبي على الإنفاق الاستهلاكي لثروة لا فضل لأحد إلا الله في إحداثها، وكل ما يسوق أنه إنفاق استثماري للأسف ينهب بسبب سوء إدارته، فلا الاقتصاد نما ولا المواطن ترفه وأشبع احتياجاته.

2) تقييد حرية رؤوس الأموال، وإدارة البلد بأدوات اقتصاد الأزمة، والتركيز على تولي صندق موازنة الأسعار توفير السلع الأساسية مع الرقابة المشددة عليه والمحاسبة الفعلية.

3) استقلالية السياسة النقدية للمساعدة في دعم الاقتصاد والحد من مشاكل التضخم والبطالة.