كتب “أحمد زاهر” مقالاً قال خلاله:
لطالما كانت الطبقة انعكاسًا لطبيعة الاقتصاد، ففي المجتمعات الزراعية، تستمد النخبة قوتها من حيازة الأرض والقدرة على تنظيم العمل داخلها.
وفي ليبيا ما قبل النفط، كان البناء الاجتماعي متأثرًا بهذا النمط، حيث تشكّلت طبقة متنفذة من كبار ملاك الأراضي والعائلات ذات النفوذ المحلي، مستندة إلى شبكة علاقات تقليدية، تتداخل فيها الصلات القبلية بالاقتصاد الفلاحي، وتقوم على السيطرة على الموارد لا على السيطرة على الدولة، لكن مع اكتشاف النفط، تغيّر كل شيء.
لم يعد النفوذ يُقاس بما تملكه من أرض أو ما تنتجه من عمل، بل بما تملكه من موقع في جهاز الدولة أو صلة بمراكز القرار.
تحوّل الاقتصاد من إنتاجي تقليدي إلى ريعي مركزي، وتحولت معه الطبقة المهيمنة من طبقة مرتبطة بالمكان إلى طبقة مرتبطة بالسلطة.
وقد نتج عن هذا التحوّل زعزعة في البنية الطبقية، لا لأن الدولة أصبحت أكثر عدالة، بل لأنها أعادت تعريف مصادر الغنى والقوة.
لم تعد الثروة تأتي من العمل أو الإنتاج، بل من الامتيازات، العقود، والتوظيف العام.
ظهرت طبقة جديدة لا تستمد مشروعيتها من التاريخ أو النسب أو الكفاءة، بل من القدرة على الوصول إلى الدولة، أو اللعب في محيطها، هذه الطبقة، التي يمكن تسميتها اصطلاحًا بـ”البرجوازية الريعية”، لم تنشأ من تطور طبيعي داخل الاقتصاد، بل من طفرات مفاجئة خلقها تدفق المال العام من الخارج إلى الداخل.
ورغم أنها حديثة الصعود، إلا أنها لم تنتج لنفسها نموذجًا ثقافيًا خاصًا بها، بل استدعت من الذاكرة الجمعية صورة الغنى كما كانت مُمثلة في الطبقات القديمة: مظاهر الترف، الرموز الاجتماعية، العزلة النسبية عن المجتمع، والتمثّل بالمركز لا بالأطراف.
لكن الفارق الجوهري أن البرجوازية الجديدة لا تملك مشروعًا إنتاجيًا، ولا تستند إلى شرعية دور اقتصادي، بل تكتفي بإعادة توزيع ما تنتجه الدولة من ريع.
فهي طبقة مستهلكة للثروة لا خالقة لها، وتعيش على محاكاة الطبقات السابقة دون أن تمتلك مضمونها، وهكذا ورثت مظهر “النخبة” دون مضمون “الريادة”، في العمق، ما حدث في ليبيا هو انتقال من أرستقراطية الأرض إلى برجوازية الدولة، من سلطة المكان إلى سلطة الامتياز، من منطق الإنتاج إلى منطق القرب.
لكن دون المرور بمراحل نضج رأسمالي، أو نشوء حقيقي لطبقة وسطى، أو ثقافة عمل مستقرة، ولأن هذا التحول تمّ دون بنية مؤسسية تحكمه، أصبح هشًا ومشوّهًا.
فهو لم يؤسس نظامًا طبقيًا صاعدًا، بل أعاد إنتاج الاستبعاد الاجتماعي بصور جديدة: استبعاد على أساس الوظيفة، أو المنطقة، أو الارتباط بمراكز القرار، لا على أساس الكفاءة أو المشاركة الفعلية في الاقتصاد.
إن فهم هذا التحول لا يتعلق بالماضي فقط، بل بالحاضر أيضًا، فكل صراع اليوم على السلطة والثروة، وكل تشظٍّ في الهوية الوطنية، وكل هشاشة في العقد الاجتماعي، له جذور في هذا التحول الطبقي غير المتوازن، ولهذا لا يمكن الحديث عن بناء ليبيا المستقبل دون تفكيك هذا التكوين الطبقي الريعي، وإعادة تأسيس العلاقة بين الثروة والعمل، بين الدولة والمجتمع، على أسس جديدة:
أسس تُعيد الاعتبار للإنتاج، وتمنح الشرعية لمن يصنع القيمة لا لمن يستهلكها،وتنتج طبقة وسطى فاعلة، لا مجرد وكلاء محليين للريع.