الترهوني يكتب عن “الدور المنشود للصندوق السيادي الليبي”

505

كتب: د. عبد الله ونيس الترهوني – أخصائي اقتصاديات النقل

كثر الحديث في هذه الأيام عن الحوكمة وعن المؤسسة الليبية للاستثمار وأن هناك ضرورة لتطبيق مبادئ الحوكمة في المؤسسة وأذرعها الخمسة، والذي يعني بالضرورة تعديل النظام الاساسي بما يتلاءم وهذه المبادئ، كما أن الحديث يدور عن ضرورات تطوير وتحديث مجالس الإدارة الستة (المؤسسة وأذرعها الخمسة) وهي خطوة لا بأس بها إذا ما تمت في جو من الشفافية وبإشراك دماء جديدة وواعدة في إدارة الصندوق السيادي واستثماراته.

وقبل أن أطرح وجهة نظري في هذا الموضوع دعوني أذكركم بما نشرته عن الصندوق السيادي الليبي قبل عام ونصف من الآن، والذي قلت عنه في حينه أن الخبيريْن الاقتصادييْن “داج ديتر” و”ستيفان فولستر” قد أوضحا أن الأصول (أملاك واستثمارات) حول العالم إذا ما تمت إدارتها بشكل محترف يمكنها أن تولد عائدات سنوية تقدر بنحو 3 تريليون دولار، وهو ما يتجاوز حجم الإنفاق العالمي الحالي على البنية التحتية العالمية كالنقل والطاقة والمياه والاتصالات، وبالتالي فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا نرهق أنفسنا في التفكير بشأن مصير هذه الأصول؟ والإجابة وبكل بساطة هي أن مجموع رؤوس أموال جميع أصول صناديق الثروة السيادية الموجودة على سطح الكوكب تقدر ب 75 تريليون دولار جلها مصنفة كملكية عامة.

1- إدارة الثروة أهم من إدارة الديون

تمتلك الحكومات في جميع أنحاء العالم أصولاً عامة تقدر قيمتها بنحو 75 تريليون دولار بنهاية العام 2017 ، وهي تشمل كافة أنواع الموجودات التي يمكنك تخيلها من أراض وعقارات وموانئ ومطارات وجسور وسكك حديدية .. إلخ، منها ما قيمته 10 تريليون في شكل استثمارات ومحافظ، والتي غالبًا ما تدار بشكل سيئ مؤسسيًا ولا تظهر حتى في ميزانيات البلد العمومية، إلا أن عملية حصر وتقييم الأصول العامة غالبًا تكون صعبة للغاية لأسباب يطول ذكرها ولا يتسع المجال لحصرها.

تكمن المعضلة الليبية في أن الأصول العامة الثابتة في داخل البلاد وخارجها لم يتم حصرها بشكل نهائي بعد، كما أن إدارة القائم منها تتم محاسبته وتقييمه بشكل ضعيف وبشكل غير حرفي من الأساس، كما أن الصندوق السيادي لا يملك مقرا بكل أسف، فهو منذ نشأته وإلى هذه الساعة لازال يتنقل بين عدد من المباني التي يؤجرها، وبعكس ديوان المحاسبة حديث النشأة الذي عمل على شراء مبني (نصف عمر) وهو يعمل الآن على استكماله للانتقال والعمل من خلاله في السنة القادمة، ناهيك عن التجميد الذي طال أغلب الأصول الليبية إن لم نقل كلها، وهي تشبه دولة اليونان من ناحية حصر أملاك الدولة بسجلات ملكية سليمة ، فاليونان لا تملك سجلًا وطنيًا كاملًا للأراضي التي من المفترض أنها ملكية عامة في مقابل حصرها لأكثر من 90 % من مباني الدولة وأصولها الثابتة بالداخل ، وهو ما ينطبق تماماً على الحالة الليبية، والفرق بين ليبيا واليونان يكمن في أن ليبيا وبفضل الله دولة غير مدينة لأي أحد ولكنها عانت وتعاني من فقدان الإدارة المهنية الصحيحة لأغلب مرافق الدولة.

2- إعادة التنظيم الإداري المقرون بالحوكمة

في بلدنا ليبيا المكاشفة هي أساس “المساءلة”، وفي غياب الشفافية والانفتاح والوضوح بشأن طريقة إدارة الأصول العامة لا يمكن أن تكون هناك أي مساءلة فعالة للقائمين على إدارتها (الحكومة وأدواتها التنفيذية) من قبل السلطة التشريعية وأدوات الرقابة والمحاسبة، وبالتالي فهم أشبه بمن يقف في الظلام، وأن الكثيرين من الليبيين وبالأخص رجال الأعمال يشيرون دائمًا إلى بعض الدراسات التي توضح أن الشركات المملوكة للدولة (الشركات العامة) تحقق عوائد أقل من نظيراتها المملوكة للقطاع الخاص وكأنه قدرها المحتوم، وهم بذلك يتجاهلون وجود الكثير من الشركات الحكومية حول العالم والتي تدار بشكل ممتاز مثل “ستات أويل” النرويجية و”أرامكو السعودية”، والصندوق السيادي النرويجي، والمحفظة طويلة الأجل في ليبيا .. إلخ ، ومن أجل إدارة أفضل للأصول العامة بشقيها (أملاك واستثمارات) فإن اتباع المهنية في اختيار الإدارات المهنية المقرونة بالشفافية (الحوكمة) هي الخطوة الحاسمة في هذا الاتجاه ، وبدليل أن هناك بلدانا لديها نهج يتسم بالكفاءة والمهنية والشفافية في إدارة أصولها العامة مثل النمسا وفنلندا ونيوزيلندا وسنغافورة والسويد، حيث تقوم بنشر تقارير سنوية توضح أداء أي أصل من الأصول التي تمتلكها الدولة وبكل شفافية.

3- دور صناديق الثروة السيادية

يقترح “ديتر” و”فولستر” أن تنظيم وتجميع الأصول المملوكة للحكومة (بالداخل والخارج) تحت مظلة صندوق ثروة سيادي واحد، والذي سيكون بمثابة صندوق أسهم خاصة مملوك للقطاع العام، تتم إدارته بطريقة شفافة من قبل الخبراء دون تدخل السياسيين هو المفتاح، وسيكون مصدرا مهما من مصادر الدخل القومي، وأن أبرز ما قد يعيق الإدارة الناجحة للأصول العامة هو وجود علاقة غير مستقرة بين القائمين على إدارتها والساسة، وهو ما يساهم في تفويت الكثير من الفرص، بل والأسوء من ذلك بأن تصبح هذه الأصول ضحية للتدخل السياسي والمحسوبية والفساد كما هو عليه الحال في ليبيا.

إن الاعتقاد السائد بأن الصناديق السيادية تدار بواسطة خبراء ماليين فقط هو اعتقاد غير صحيح، فالفرصة في الاستثمار تأتي من رجال اقتصاديين يملكون نظرة ثاقبة ورؤية صحيحة، وبدورهم يحيلونها للرجل المالي الذي يحدد جدواها من عدمه سواء على المدى القصير أو المتوسط أو البعيد، كما أن الاعتقاد السائد بأن الصناديق الاستثمارية تستثمر فقط في الأصول المالية قصيرة أو متوسطة الأجل هو الآخر غير صحيح، ولكن للدولة في المقابل أن تحتفظ بحقها في فرض ضوابط على جميع الممتلكات العامة والاستثمارات، وتعيين مدققي الحسابات، والمديرين غير التنفيذيين المسؤولين عن تلك المحافظ .. إلخ، وهذا يعني أن يكون الاستثمار متنوعا حاله حال الأصول العامة المتنوعة أصلاً (هجين)، وأن هذا النهج (الهجين) في تملك الأصول العامة وإدارتها سيسمح بتوحيد جميع الأصول العامة تحت كيان واحد له خطة استراتيجية متكاملة في بحر سنتين إلى ثلاث سنوات، بشرط أن تدار بكفاءة ومهنية ووفق المعايير الدولية.

ولتبسيط الفكرة أكثر إليكم هذا المثال الحي؛ صندوق الثروة السيادي النمساوي (ÖIAG) يمتلك محفظة من الأصول العامة تعادل قيمتها نحو 25% من القيمة الإجمالية لسوق الأسهم النمساوي (2015)، وهذا الصندوق كان قد تأسس في العام 1946 كخطوة استباقية لتأميم الصناعة النمساوية قبل الاستيلاء عليها من قبل الاحتلال السوفيتي، مع الأخذ في الاعتبار أن النمسا ليست دولة صناعية كما أنها دولة مغلقة لا تمتلك بحرا ولا سواحل، وفي العام 1970 وبعد خسائر متزايدة كان سببها الوحيد هو التدخل السياسي تم تحويل الصندوق إلى شركة قابضة مستقلة، وتم استبعاد كافة السياسيين وأقاربهم من مجلس الإدارة، وكما يقولون العبرة بالنتائج، فاليوم يحقق الصندوق عوائد معتبرة، بل وتمكن من سداد الديون التي تراكمت عليه قبل عام 1970 عندما تحول إلى شركة قابضة مستقلة كما ذكرنا، ضف إلى ذلك وبرغم نجاحه الباهر فإن صندوق الثروة السيادي النرويجي الأكبر من نوعه في العالم والذي يملك أصولا تزيد عن تريليون دولار قد تكبد خسائر كبيرة في أول ربع من العام 2018 بلغت 21 مليار دولار أي ما يعادل 30 % من إجمالي أصول صندوق الثروة السيادية الليبي والبالغة 68 مليار دولار قبل أحداث العام 2011، والتي من الأرجح أن يكون قد ذاب منها الكثير لأسباب يطول شرحها، ورغم النزاهة والحوكمة التي يتم بها إدارة أصول ومساهمات الصندوق النرويجي إلا أن القائمين عليه أخطأوا أو لم يتنبهوا إلى خطر محدق وهو ضرورة التنوع في الاستثمار رأسياً وأفقياً، متجاهلين أن اقتصاد السوق أو الاقتصاد الرأسمالي مُعرض للاهتزازات كما أشرت سلفاً، فصندوق الثروة السيادي النرويجي كان يستثمر أكثر من ثلثي أصوله وبنسبة 66.2% في شكل أسهم، وهذا خطأ فادح ولا يُغتفر، فكما هو معلوم فإن الأسهم من أعلى المخاطر المالية في العالم رغم أن الاستثمارات عالية المخاطر تدر أرباحا أكثر من الاستثمارات النمطية، ولكن ما يحسب لمن هم قائمون على إدارة هذا الصندوق أنهم قد تداركوا خطأهم بسرعة واتجهوا منذ منتصف العام 2018 إلى الاستثمار في التكنولوجيا والسندات سالبة العائد، وقد حقق الصندوق بهذه الخطوة  الكبيرة أرباحا فصلية معتبرة، فمع نهاية الربع الثاني للعام الجاري بلغت إجمالي أرباح الصندوق النرويجي 28.5 مليار دولار، وهذا الرقم يعني أن متوسط العائد السنوي لأصول الصندوق قد بلغ 11.2% ، وهذا بحد ذاته إعجاز أكثر من كونه إنجاز بالمقارنة مع نتائج الفصلين الأول والثاني من العام 2018 ، وهذا يعود لحنكة وبُعد نظر القائمين على هذا الصندوق.

وبعد أن استعرضت معكم مقالي المنشور العام الماضي مع بعض التحديثات عليه، أتمنى أن يُفضي اجتماع مجلس الأمناء (المرتقب) إلى اختيار مجلس إدارة جديد للمؤسسة ومدير تنفيذي من خارج هذا المجلس وفقاً لمعيار الكفاءة وبعيداً عن المحاصصة، ثم يكون على مجلس إدارة المؤسسة اختيار مجالس إدارة للأذرع الخمسة ومدرائها التنفيذيين، والتي يجب أن تكون متنوعة ومتخصصة وفقاً لطبيعة ونشاط هذه الأذرع، ولابد بالضرورة أن لا يكون أيّا من أعضاء هذه المجالس عضواً بمجالس الإدارة أو العضويات بالمساهمات الخارجية وذلك ترسيخاً لمبادئ الحوكمة، كي نرى بأعييننا في قادم الأيام أن الاستثمارات الليبية بالخارج محركاً فاعلاً في الاقتصاد، وأنها قد ساهمت في الناتج الإجمالي للبلاد والذي يعتمد حالياً على النفط ولا شئ غيره.

ختاماً إن طريقة إدارة الثروة العامة هي واحدة من اللبنات المؤسسية الحاسمة التي تمايز بين الدول الناجحة والفاشلة، وأنا أدعم مشاركة القطاع الخاص المقننة والمضبوطة في اقتصاد الدولة الليبية، وفي المقابل أود أن أشير إلى أن مؤيدي الخصخصة تغيب عنهم نقطة مهمة جدًا أثناء جدالهم اللا منتهي مع مؤيدي القطاع العام، وهي أن ما يهم الشعب عندما يتعلق الأمر بالأصول المملوكة للدولة هو كفاءة إدارتها ومدى مساهمتها في الدخل القومي للبلد كصندوق للحاضر أو حتى للأجيال القادمة، ولا يهمهم شيء غير ذلك.