بين الإقطاع الحكومي والرأسمالية المتغولة

1٬300

كتب : د. عبد الحكيم الثليب

المجتمعات الإقطاعية البدائية لديها حساسية مفرطة من نجاح الأفراد وتمكنهم من تحقيق المداخيل والثروات العالية وتنظر إليهم غالبا بنوع من الشك والإرتياب، وربما أيضاً الحسد، وهذا أمر متوقع بالنظر إلى أن وسائل تحقيق النجاح والثروة في المجتمعات الإقطاعية تكون غالبا عبر المشاركة في حفلة النهب التي تشرف عليها وتنظمها الحكومات، ويحدث هذا أحيانا بطريقة مباشرة عبر تولي المناصب الحكومية، أو بطريقة غير مباشرة عبر الحصول على حظوة لدى أصحاب المناصب الحكومية.

فالحكومة في المجتمعات الإقطاعية تهيمن بشكل شبه كامل على الموارد والإمكانيات وتتصرف فيها بطريقة شبه مطلقة، والشعار المرفوع هو (الحكومة هي كل شئ ولا شئ خارج الحكومة)، وهذا طبعا لا ينفي وجود بعض الأفراد القلائل الناجحين بطريقة مشروعة بعيدا عن غنائم وحظوة الحكومات، ولكن هذا يمثل غالبا استثناء وحالات نادرة معدودة، فتحقيق النجاح على المستوى المادي في المجتمعات الإقطاعية يعتمد غالبا على القدرة على التملق واللف والدوران، والقدرة على الوصول إلى مغارة الكنز الحكومي، دون أن يتطلب ذلك القيام بأي عمل مفيد له مردود حقيقي ملموس على المجتمع.

الوضع يختلف بشكل جذري في دولة المواطنة الحديثة، فتحقيق النجاح والثروة ينظر إليه غالبا بشكل إيجابي ومثير للتقدير والإعجاب لأن الجميع مقتنعين بأن ساحة المنافسة متاحة أمام الجميع بقدر مناسب من الشفافية وتكافؤ الفرص، وأن تحقيق النجاح يتطلب غالبا بدل الجهد والعمل المضني والإبداع، وهذا لا يعني طبعا أن هذه المجتمعات حققت مستوى العدالة والشفافية المثالية أو وصلت إلى درجة الكمال، والكمال لله وحده على أية حال.

في ظل هذه التركيبة يصبح تحقيق النجاح مرتبط ومعتمد بشكل كبير على القدرة على تقديم منتجات وخدمات قادرة على المنافسة ومفيدة للناس، رغم أن هذا لا ينفي وجود بعض الخلل المتمثل في بعض مظاهر التطرف على تشجيع الإستهلاك وتقديم كل المغريات الممكنة بدون أطار أو واعز أخلاقي معنوي متوازن.

الناحية الأخرى المختلفة هي أن نظام الضرائب الحديث يكون غالبا مصمم بشكل ذكي لكبح جماح التغول الرأسمالي عن طريق فرض الضرائب التصاعدية التي تؤدي الى تحقيق هدفين :

الهدف الأول :

هو تحقيق دخل مالي للدولة عن طريق جباية الضرائب بما يتيح لها استخدامه في تمويل البرامج الاجتماعية وكفالة الطبقات الأضعف في المجتمع وبما يحقق توزيع افضل للموارد والثروات،

والهدف الثاني:

هو دفع الشركات الناجحة إلى الالتجاء إلى أسواق الأوراق المالية والتحول من شركات خاصة إلى شركات مساهمة يمتلكها الآلاف وربما الملايين من المساهمين ويتحقق بذلك مستوى أفضل من المشاركة وتوزيع أفقي أفضل للموارد ومستوى أعلى من الشفافية.

الهدف السامي الذي يسعى إليه مشروع دولة المواطنة الحديثة هو تحقيق ( التوازن ) بين المتناقضات عبر فتح أبواب الفرص المتكافئة أمام الجميع وتشجيع المبادرات ومكافئة المجتهدين والناجحين وتوفير بيئة محفزة للمبادرات والنشاط الاقتصادي، وفي نفس الوقت تحقيق أفضل مستوى ممكن من العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للموارد وكفالة الطبقات الأضعف في المجتمع، والمشروع يقدم الوسائل والأدوات العملية القابلة للتطبيق لتحقيق هذه الأهداف دون التفريط في خصوصية وتقاليد المجتمع الليبي.

جاء في الأثر عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ” نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ “.

المشروع : الانتقال من دولة الإقطاع إلى دولة المواطنة  .. الإطار العملي : الحكومة الصغيرة